المسرح العبثي في الوطن العربي: بحث عن المعنى في عالم مليء باللامعقول


المسرح العبثي هو نوع من أنواع المسرح الذي نشأ في أوروبا في منتصف القرن العشرين، ويتميز بتقديمه لقصص وشخصيات تفتقر إلى المعنى التقليدي أو الوضوح، حيث يُظهر عبثية الحياة وعدم جدوى وجود الإنسان.
خاص المنصة 100
ومنذ ظهور هذا النوع من المسرح في الغرب، بدأ تأثيره يصل إلى مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك العالم العربي، الذي تأثر بشكل خاص بتغيرات سياسية واجتماعية جذرية.
الظهور والتأثر بالمسرح العبثي في الوطن العربي
بدأ المسرح العبثي في الوطن العربي يتسلل تدريجيًا خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بعد أن أصبح هذا النوع من المسرح يعبّر عن الواقع المأزوم في أوروبا. تمثل بداياته في تجارب مسرحية مبتكرة سعت إلى البحث عن معنى الوجود وأزمة الإنسان في مواجهة اللامعقول.
في هذه الفترة، كانت العديد من الدول العربية تشهد تحولات اجتماعية وسياسية مهمة، مثل الاستقلالات الوطنية وحركات التحرر من الاستعمار، وما صاحبه من تحولات فكرية وفلسفية عميقة. ولذلك، بدأ المسرح العبثي يشكّل نوعًا من الإجابة على مشاعر الاغتراب، اللامبالاة، والظروف الاجتماعية الصعبة.

أبرز رواد المسرح العبثي في العالم العربي
كان الكاتب المسرحي المصري صلاح عبد الصبور من أول من قدم أعمالًا ذات صلة بالمسرح العبثي في الوطن العربي، فقد قدم مسرحية “مأساة الحلاج” (1968) التي كانت تمزج بين الصوفية والعبثية، وتطرح تساؤلات فلسفية حول الوجود.
من جهة أخرى، كان فرج سعيد أحد المبدعين الذين سعت أعمالهم إلى التأكيد على ملامح المسرح العبثي من خلال النصوص التي تعكس صراع الإنسان مع الحياة، مثل مسرحية “الإنسان الطيب”. كما ساهم المخرج المسرحي جورج أبيض في تقديم بعض التجارب المميزة التي كان لها طابع عبثي، مثل تأويلات أعمال الكتاب الغربيين.

المسرح العبثي في لبنان
لم يكن المسرح العبثي غريبًا عن لبنان، حيث نشأت مجموعة من المجموعات المسرحية التي استلهمت هذا النوع من الأدب المسرحي. على سبيل المثال، مجموعة “مسرح الشمس” التي قادها المخرج ماريو سابا، فقد تبنّت هذا الاتجاه في أعمالها لتقديم مسرح يمزج بين العبثية والسياسة.
المسرح العبثي في تونس والمغرب
في تونس، نجد أن المسرح العبثي برز مع الكاتب حسين بوجمعة الذي كان له دور كبير في تطوير هذا التيار، كما تميزت أعماله بطرح الأسئلة الوجودية والتعامل مع عناصر الفوضى واللاجدوى.
أما في المغرب، فقد تم تقديم بعض الأعمال التي تعتمد على الأسلوب العبثي، خصوصًا في إطار التجارب التقدمية التي حاولت أن تواكب التحولات الثقافية في الوطن العربي.
السمات المشتركة للمسرح العبثي في الوطن العربي
- الرمزية والتجريد: استخدام الرموز والتجريد في الشخصيات والحوار كان من أبرز سمات المسرح العبثي في العالم العربي. كان المسرحيون يعتمدون على تقديم نصوص تستدعي تفسيرات متعددة، مما يجعل الجمهور في حالة من التأمل والتساؤل.
- التركيز على قضايا الإنسان: معظم الأعمال المسرحية العبثية في الوطن العربي كانت تركز على تساؤلات الإنسان عن الوجود، والمعاناة، والفراغ الوجودي.
- التأثر بالأحداث السياسية والاجتماعية: كان المسرح العبثي في الوطن العربي في كثير من الأحيان يعكس الإحباط الناتج عن الأوضاع السياسية المتأزمة، مثل الحروب والنزاعات الداخلية، إضافة إلى الإحساس بعدم الاستقرار.
- التجريب في الشكل: مثل المسرح العبثي الغربي، كان المسرح العبثي العربي يميل إلى التجريب في الشكل والعرض، حيث كانت النصوص تقترب من الفوضى أو تدور في حلقات مغلقة، مما يعكس تأزم العقل البشري في مواجهة الواقع الصعب.
التحديات والآفاق المستقبلية
على الرغم من التقدم الذي أحرزه المسرح العبثي في الوطن العربي، إلا أنه واجه العديد من التحديات، أهمها محدودية الجمهور المتقبل لهذا النوع من المسرح، خاصة في مجتمعات قد تكون غير مستعدة لمناقشة مواضيع فلسفية معقدة ووجودية.
ومع ذلك، يظل للمسرح العبثي دورٌ فاعلٌ في تشكيل وعي المجتمع العربي وإثارة التساؤلات حول مصير الإنسان في هذا العالم المعقد.

الأب المؤسس للمسرح العبثي في الوطن العربي
ظهر العبث في المسرح العربي للمرة الأولى على يد توفيق الحكيم الذي قدّم له وشرحه في مقدّمة مسرحيّته يا طالع الشجرة حيث انسحب ذلك أيضًا على أشكال التناول النقديّ لهذه المسرحيّة فتراوحت تفسيرات الشارحين وتحليلات النقاد للمسرحيّة وللمقدّمة بين مؤيّد ومعارض. شكّلت تجربة الحكيم في مسرح العبث تجربة تأسيسيّة في هذا الاتّجاه ولهذا كانت أكثر المسرحيّات تعرّضًا للتناول النقديّ والبحثيّ في السنوات اللاحقة. حاولتُ أن أوضّح من خلال نموذج مسرح العبث عند الحكيم حتميّة دخول هذا المفهوم في فضاء جدليّ بحكم هجرته إلى بيئة ثقافيّة مختلفة عن بيئة منشئه نتيجة حدث المثاقفة مع الغرب.*
ويمكن القول إن المسرح العبثي في الوطن العربي قد تطور في سياق ثقافي وفكري معقد، ونجح في تقديم أشكال جديدة من التعبير الفني. وعلى الرغم من التحديات التي يواجهها هذا النوع من المسرح، فإنه يظل أحد الألوان الفنية التي تساهم في إثراء الفضاء الثقافي العربي، وتحث الجمهور على التفكير في معاني الحياة ووجودهم في هذا العالم.