رواية “عالم يتنفس الموت”: صوت الحقيقة في عالم يغرق في الظلال

رواية “عالم يتنفس الموت”: صوت الحقيقة في عالم يغرق في الظلال

موسى العجارمة


أنهيتُ للتو قراءة الرواية الجديدة عالم يتنفس الموت، التي وجدتُ فيها بوتقةً حاضنةً للوحةٍ أدبيةٍ معقدة تحاكي نبض الحياة في أكثر زواياها قتامة، تجتمع بين طيّاتها أصواتٌ متعددة تُعبّر عن صراعات داخلية وخارجية، تتشابك بين الأمل واليأس، وبين الخلاص والضياع.

بكل صدقٍ وموضوعية، وجدتُ في هذه الرواية شخصياتٍ حقيقيةً تتشبث بالحياة، بعيدةً عن القوالب الجاهزة المكررة في أغلب الروايات التقليدية، وهي محاطةٌ بأحداثٍ وأزمنةٍ تحوم حولها انعكاساتٌ صادقةٌ لصراعات النفس البشرية، وأزماتها التي تتجاوز الواقع لتقترب من الحقيقة، تلك الحقيقة التي تبدو أصعب من أي واقعٍ محتمل، وقد تولدت لديّ قناعةٌ تامةٌ بأن هذه الرواية، التي كتبها منذر رياحنة ومارغو حداد (مع حفظ الألقاب)، تشكّل منعطفًا جديدًا في مسار الرواية الأردنية والعربية.

وفي خلجات الرواية وأروقتها، وجدتُ أن الميزة الأولى التي تجذب القارئ إلى حالة دهشةٍ هي كثافة الشخصيات وتنوعها، إذ إن كل شخصية امتلكت عالمها الخاص، المليء بالتفاصيل التي تجعلها تنبض بالحياة. كما أن أوراق هذه الرواية كانت بمثابة رحلةٍ في غياهب الذات، فشخصياتها ليست مجرد أدواتٍ لديمومة الحبكة وسردية الأحداث، بل كانت كياناتٍ حقيقيةً تُعبّر عن قضايا وأزمات إنسانية عميقة.

بدءًا بـ “دييغو”، بطل القصة الذي حمل جراح الطفولة على أكتافه، مرورًا بـ “أمنية”، المرأة التي تمثل الحلم المكسور، و”أيوب”، الصوت الذي يغني للحياة رغم الظلام، وصولًا إلى شخصيات مثل “ناصر”، شاعر السرفيس، و”صفاء”، رئيسة العصابة التي تختزل في شخصها قوةً وجبروتًا نادرًا ما نراه مجسدًا في الأدب.

وأعتقد أن هذه الرواية تُشكل فرصةً حقيقيةً أمام صُنّاع الدراما في الأردن لإنتاج مسلسلٍ أردنيٍّ مهمٍ مستوحًى منها، لا سيما أن صناعة العمل المعاصر في الآونة الأخيرة كانت المعضلةَ الأعقد، بسبب عدم توفر نصوصٍ جيدةٍ وحقيقيةٍ، إلى جانب أمورٍ أخرى لا أود الخوض فيها.

المنصة 100
غلاف الرواية – من المصدر

ورواية عالم يتنفس الموت، أتمنى ألا تواجه المصير ذاته الذي جابهته رواية عندما تشيخ الذئاب للرائع جمال ناجي، حيث تم إنتاجها في سوريا بشخوصٍ وأماكنَ غير أردنية، نظرًا لعدم توفر الإمكانيات اللازمة لإنتاجها في العاصمة عمان.

واليوم، الفرصة سانحةٌ ومثلى لحياكة إيقاعٍ فنيٍّ دراميٍّ جديد، مستندٍ إلى قصةٍ ملهمة ذات طابعٍ إبداعي، جُبلت سرديّتُها على شكلين أساسيين، لتقديم مسلسلٍ أردنيٍّ ينهض بالحركة الفنية، ويكون صفحةً جديدةً لإنتاج أعمالٍ معاصرة، تجعل الأردن حاضرًا بقوةٍ على الخارطة العربية، ويُقدّم إسهاماتٍ فاعلةً نحو التغيير والتأثير، والمساهمةِ في التصدي لجميع التحديات، إذ إن الدراما الحقيقية ستبقى إحدى أدوات القوة الناعمة للدولة.

ورواية عالم يتنفس الموت اعتمدت في أحداثها على السرد العليم، الذي يعلّق على الأحداث من الخارج، مُقدّمًا للقارئ صورةً شاملةً لما يجري في العالم الروائي، إلى جانب السرد الداخلي، الذي يُعبّر عن مشاعر الشخصيات وأفكارها العميقة التي لا تُقال بصوتٍ عالٍ. هذا التنوع السردي منح الرواية بُعدًا إضافيًا، حيث يشعر القارئ أنه لا يقرأ الأحداث فقط، بل يعيش داخل عقول الشخصيات وقلوبها، مما يخلق تجربةَ قراءةٍ شديدةَ التأثير.

وتتميز الرواية بجرأتها في تناول القضايا الإنسانية، فهي لا تتجنب الحديث عن الألم، أو الفقد، أو الخيانة، أو التناقضات التي تمزّق النفس البشرية، بل تتناول هذه القضايا برؤيةٍ إنسانيةٍ واقعيةٍ، تتماهى مع الحقيقة دون تجميلٍ أو مبالغة، مما جعل الرواية تتجاوز كونها مجرد انعكاسٍ للواقع، لتصبح صوتًا للحقيقة، الحقيقة التي تهز القارئ وتدفعه إلى التفكير العميق في الحياة ومعانيها.

ومن الناحية الأسلوبية، انفردت الرواية بخصوصيتها المبنية على المزج بين الحالة الشعرية والواقعية، لدرجة أنني شعرتُ في الوهلة الأولى أنني أعرف هذه الشخصيات وأعيش معها. فقد كانت اللغة مشبعةً بالصور الحسية التي تجعل القارئ يشعر وكأنه يرى، ويسمع، ويشمّ تفاصيل العالم الروائي كافة.

وفي الوقت ذاته، تجنّبت الرواية التكلّف، واتجهت إلى منهجٍ قريبٍ من السهل الممتنع، حيث كان هناك بساطةٌ ووضوحٌ في التعبير عن المشاعر الإنسانية، مما جعل النص قريبًا من القارئ، رغم ثقل الموضوعات التي يتناولها.

وفي مستهل الرواية، ترددت إلى مخيلتي أشكال هذه الشخصيات والأماكن التي يعيشون فيها، وبدأت أتخيل منذر ومارغو أبطالًا لهذه الرواية في عملٍ درامي، إذ إن هذه الرواية عبارة عن رحلةٍ مجانيةٍ إلى عالم الجمال، فكانت تجربةً معاشةً نقلتني إلى عالمٍ مليءٍ بالتفاصيل. وقد رافقتني الشخصيات والأحداث حتى بعد أن أغلقتُ الصفحةَ الأخيرةَ من الرواية ووضعتُها على رف مكتبتي الخاصة، فهي باختصار، روايةٌ تتحدى القارئَ لفهم الحقيقة، ليس فقط عن العالم الذي تصفه، بل عن نفسه أيضًا.

وعندما يكتب منذر ومارغو سويًا، لا يكون النص انعكاسًا لثنائية الرجل والمرأة، بل تجسيدًا لتكامل رؤيتين نابعتين من تجربتين إنسانيتين مختلفتين، فالكتابة هنا، في المقام الأول، ليست انقسامًا بين منطقٍ وعاطفة، بل انسجامٌ بين العمق والتحليل، وبين التأمل الداخلي والمراقبة الخارجية. إنها توليفةٌ إبداعيةٌ تُلامس أحاسيس القارئ، وتجعله شريكًا حقيقيًا في أحداث القصة، لدرجة أن بعض الحوارات تشعرُ وكأن القارئَ نفسه يضع بصمته عليها، ليكملها وفقًا لما تصوّره في مخيلته، التي باتت أشبه بحالةِ الواقع.

وفي عالم يتنفس الموت، لا نشعر بصوتين منفصلين، بل برؤيةٍ سرديةٍ موحدةٍ، تتجاوز التصنيفات التقليدية، لتصبح نصًا ينبض بتعددية الوعي، ويمتزج فيه الحلم بالحقيقة، ويصبح الأدبُ مساحةً يلتقي فيها الفكرُ والإحساسُ دون حدودٍ فاصلة. فلا يمكننا التعامل مع هذا العمل الإبداعي على أنه مجرد ثنائيةٍ بين الرجل والمرأة، بل هو سرديّةٌ انصهرت تفاصيلُها في بوتقةٍ واحدة، وكأن صُنّاعها عايشوا ظروفَ هذه الشخصيات، وخاضوا تحدياتها بكامل تفاصيلها.

وفي الختام، هذه الرواية تُشكّل بنيةً تحتيةً جديدة، وفرصةً واعدةً لتقديم حكايةٍ أردنيةٍ معاصرةٍ على الشاشة، وينبغي انتهازُها قبل فوات الأوان، لأن الدراما الأردنية اليوم بعيدةٌ كل البعد عن الخارطة الإبداعية، وهذه الفرصة قد لا تتكرر. فمن الممكن تقديم هذا العمل بشخصياتٍ وأماكنَ أردنيةٍ، بمشاركة نجومٍ عربٍ يُثرون العمل ويُضيفون إليه بُعدًا فنيًا أوسع.

إقرأ أيضاً

"أوار خامدة" .. صراع الإنسان مع ذاته وحياة زوجية على حافة الفناء
"أوار خامدة" .. صراع الإنسان مع ذاته وحياة زوجية على حافة الفناء
في فضاء مسرحي خنقه الركام وتآكلت ملامحه بالقذارة والعناكب، عُرضت مسرحية “أوار خامدة” ضمن...
“حمام الهنا"مسرحية تجريبية تفتح أسئلة الرجل وتكسر قوالب الرجولة في ليالي المسرح الحر
“حمام الهنا"مسرحية تجريبية تفتح أسئلة الرجل وتكسر قوالب الرجولة في ليالي المسرح الحر
في مساءات مهرجان ليالي المسرح الحر الدولي العشرين، جاء العرض الأردني التجريبي “حمام الهنا” ليقدّم رؤية...
مسرحية "نهيل" صراع بين هوية عمان الحداثية والكلاسيكية
مسرحية "نهيل" صراع بين هوية عمان الحداثية والكلاسيكية
النقيض هو جوهر الكمال، هذا مارادت مسرحية نهيل إيصاله من خلال عرضها تزامنًا مع إنطلاق مهرجان ليالي المسرح...
إليسا تلفت الأنظار بفستانها البراق ورقصتها الغريبة على المسرح
إليسا تلفت الأنظار بفستانها البراق ورقصتها الغريبة على المسرح
لفتت النجمة إليسا الأنظار خلال حفلها الأخير في “كازينو لبنان“، ليس فقط بإطلالتها الناعمة...
عائلة أوباما ولاري ديفيد في مسلسل كوميدي عن أمريكا
عائلة أوباما ولاري ديفيد في مسلسل كوميدي عن أمريكا
في مشروع تلفزيوني جديد، سيتعاون الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وزوجته ميشيل مع الكاتب والممثل الكوميدي...