هل تعلم أن اللغة العربية كنز فرنسا؟


أعاد جاك لانغ رئيس مجلس إدارة “معهد العالم العربي” في باريس رفع شعار “اللغة العربية كنز فرنسا”، ليس فقط تحت علم بلاده، وإنّما في أوروبا التي يؤمن بأنَّ نهضتها عبرت على جسر لغة عربية حملت على عاتقها مهمتي ترجمة العلوم الإغريقية، والإنتاج الفكري والعلمي في العالم الإسلامي.
حاجةٌ إلى الميراث الضخم المكتوب والمُترجم بالعربية
بقي جاك لانغ يتحدث من شرفة المعجب غير الممارس “لهذه اللغة الفريدة”، والمدافع عنها ضمن التزامه الجذري بالتعددية اللغوية، والعربية بالخصوص محمولة على تاريخ يستدعيه لانغ منذ القرن السادس عشر حين كانت تدرّس بإرادة ملكية إلى جانب الفرنسية والإغريقية القديمة. هذه اللغة الثرية، وهو يصفها، يختار منها كلمة الحبّ، فيجد أن مرادفاتها بالعشرات، بينما في لغته الفرنسية لا توجد سوى كلمة واحدة. إنها فوق الينبوع الأدبي، لغة علم وعبادة.
وأضاف أن علينا تكرار القول إنَّ علم الجبر ورسم الأرقام والصفر؛ هذا الاختراع المذهل وصل بلسان عربيٍّ، وكانت أوروبا لا تزال تعتمد على الترجمات العربية للنصوص اليونانية في الطب، والرياضيات، والفلسفة، إضافة إلى نصوصٍ كبرى عبرت ثقافات العالَم مثل “ألف ليلة وليلة”.
لهذا نشرَ جاك لانغ كتابه “اللغة العربية كنز فرنسا” عام 2022، وبهذا العنوان الذي يبدو فاتحاً لشهيّة القراءة، وربّما مستفزّاً لفريق عنصري، يلجأ الكاتب إلى الحقيقة، بما هي حقيقة مسجلة في تاريخ الثلث الأول من القرن السادس عشر تحت حكم الملك فرانسوا الأول الذي مكث على العرش بين 1515 و1547 وكان ملكاً مؤثراً مؤسّساً دافع عن الفرنسية لتكون لغة الأكاديميا والقانون والدولة الرسمية.

ميراث ضخم
هناك أجيال، قال لانغ، نشأت على اللغة العربية، لأسباب بالغة الوضوح آنذاك تتمثّل في الحاجة إلى الميراث الضخم المكتوب والمُترجم إلى العربية، ثم الحاجة للدراسات الشرقية وأهميّة تعلّم العربية في شؤون التجارة والدبلوماسية مع إمبراطورية عثمانية في ذروة قوتها، بوجود الخليفة سليمان القانوني الذي حكم من 1520 إلى 1566، والمشهور بدوره باعتنائه بالثقافة.
وانتقل المتحدّث من معاينته التاريخية إلى اللحظة المعاصرة، وهي التي تُظهر في جهود مؤسّسية ينبغي وفق ما يدعو بحماسة تطويرها أكثر، عبر “معهد العالم العربي” والأنشطة الدائمة على مدار العام، وعلى أكبر مدى من الجغرافيا العالمية.
ذكر لانغ في السياق اختبار الكفاءة في اللغة العربية (CIMA) الذي أطلقه المعهد عام 2019، إذ لم تكن اللغة العربية تتمتّع بشهادة دولية لإتقانها على غرار “توفل” بالإنكليزية، وهذه الشهادة تسمح بتقييم مستوى اكتساب اللغة، ما يساعد على تبوؤ اللغة مقعداً مهماً يليق بها.
هذا يؤدي إلى الإسهام في شيوع اللغة أفقياً، إضافة إلى ذلك هناك “القمة الدولية للفكر العربي”، وقد أشار إلى باكورة دوراتها العام الماضي، وجمعت المشتغلين في الفلسفة والتاريخ والاقتصاد واستمرت لمدة يومين، وسلّطت الضوء على تنوّع الفكر العربي المعاصر، وإمكانية مد الجسور مع أوروبا عبر هذه القمة وسواها من مناشط ثقافية.
وأخيراً، كشف جاك لانغ عن مشروع ثقافي منتظر في يوليو/ تموز المُقبل، مع افتتاح “مهرجان أفينيون المسرحي” في جنوب فرنسا، قائلاً إنَّ اللغة العربية ستكون ضيفة الشرف لهذه الدورة، مع وجود عروض كثيرة في مختلف الأماكن أبرزها قصر البابوات، أحد أكبر القصور القوطية في أوروبا.
وأضاف أنه إلى جانب الشعر والفنون المسرحية ثمّة أمسية موسيقية رئيسية تُقام يوم الرابع عشر من يوليو/ تموز، وتحتفي بميراث أم كلثوم التي يصادف هذا العام مرور نصف قرن على رحيلها عام 1975.
ثلاث عقبات
ترك شوقي عبد الأمير، المدير العام للمعهد، اللغة العربية وما تمثله في وجدان مثقف فرنسي، إلى نقد ذاتي يرى من خلاله حلقة مفقودة في الخطاب العربي، تتمثّل في عقبات الماضوية والشفاهية والنمطية.
بالنسبة إليه، إن الحديث غالباً ما يذهب إلى الماضي المُزدهر، الماضي السومري والفرعوني والفينيقي، والمجد الإسلامي، وعليه ينشأ حاجز عن الحاضر، يجعلنا لا نخرج من فاترينة متحفية مع أجدادنا العظام، على حدّ تعبيره.
أما الشفاهية فهي ما زالت كما يراها ماثلة إلى اليوم في نقل المعرفة، حتى في الجامعات، إذ يجري تدوين الأفكار حول ما نريد قوله، دون أن نبني خطاباً معمارياً يتضمن المقدّمات والمحاجة والنتائج، بحيث يتأسّس عليها عمل بنيويّ متكامل.
والنمطية هذه الكليشيه التي وضعنا فيها الغرب تقوم على الأثافي الثلاث وهي: الماضي والعنف والاستهلاك. هنا يقف عبد الأمير بين تنميطات غربية، يحاول المعهد بما تيسّر له من جهود أن يتجاوز هذه العقبات عبر التجسير بين ماضي شعوب مُبدعة وحاضر يواصل الطريق رافضاً استسهال وسم شعوب بسمات فوقية، في الوقت الذي يتعيّن علينا النظر في المرآة، وعدم إلقاء اللوم دائماً على الخارج.