موسيقى تروي معاناة النساء في المهجر


من المطربة الجزائرية حنيفة، التي توفيت في غرفة بفندق متواضع بباريس، إلى الفنانة المغربية نجاة عتابو، التي نددت بقانون مدونة الأسرة في بلادها، مرورا بالشيخة ريميتي التي تعتبر أم موسيقى الراي.
غنت هؤلاء الفنانات عن النساء اللواتي جئن من المنطقة المغاربية للعيش في فرنسا وعشن التمييز العنصري والحرمان، وهو ما تناوله العرض الموسيقي “لا تحرروني، سأتولى الأمر بنفسي” في باريس.
“لا تحرروني، سأتولى الأمر بنفسي”، عرض فني غنائي ومسرحي يروي معاناة النساء الجزائريات بشكل خاص والمغاربيات بشكل عام في المهجر منذ ستينيات القرن الماضي.
معاناة من شتى الأنواع تناولها مزيان أزييش، مالك قاعة “كباريه سوفاج” في باريس، في لوحة فنية بشكل يوميات تُبرز ما تعرضن له من الاقصاء والتهميش، سواء في أسرهن أو في المجتمع الفرنسي.
ويكشف هذا العرض أيضا الجهود التي بذلتها النساء المغاربيات لانتزاع استقلالهن الذاتي والهروب من قبضة الرجال والمجتمع على حد سواء.

المغنية سمية ديار رفقة ابنة المغني القبائلي إدير تؤدي أغنية للشيخة ريميتي. باريس ديسمبر/كانون الأول 2024
وقالت تانينا شريات، وهي ابنة المغني الجزائري الراحل إدير والتي تلعب دور المغنية في العرض، إن “النساء المغتربات اللواتي جئن من الجزائر ومن منطقة المغرب بشكل عام هن اللواتي حفرن الأخاديد الأولى لكي نتحرر نحن بنات الجيل الجديد المولودات في فرنسا”.
وأضافت: “والدي ووالدتي جاءا من الجزائر واغتربا في فرنسا. وبالرغم من أنني ولدت هنا إلا أنني تعلمت الكثير منهما ومن جذورهما العائلية”.
أما مزيان أزييش، فقال إن هذا العرض يهدف إلى “إخراج النساء المغاربيات من الظلام الداكن الذي كان يلف حياتهن في المهجر”، مضيفا أن عرض “لا تحرروني، سأتولى الأمر بنفسي” يركز أيضا على روايات وقصص لها علاقة بالبحر الأبيض المتوسط بضفتيه، كما له علاقة مباشرة بالهجرة والنساء اللواتي يعشن نوعا من المنفى في داخلهن.
تم تقديم هذا العرض للمرة الأولى في 2021 لكن، وأمام الإعجاب الكبير الذي لقيه لدى الجالية المغاربية بفرنسا، تمت برمجته من جديد مع تحديث بعض المقاطع الموسيقية.
وُلد هذا المشروع وفق مزيان أزييش من الرغبة في الحديث عن حياة تلك النساء اللواتي تركن كل شيء في بلدانهن الأصلية طمعا في حياة أفضل بفرنسا. وقال: “رغم معاناتهن في المهجر، إلا أنهن لعبن أدورا محورية في تربية أطفالهن في ظروف صعبة. هؤلاء الأطفال درسوا وتعلموا بعد ذلك وتمكنوا من اقتحام عالم الشغل رغم العراقيل والتمييز الذي كان سائدا في سبعينيات القرن الماضي”.
مشاركة النساء المغاربيات في مسيرة 1983
كل قصة ترويها تانينا شريات ترافقها أغنية من التراث الشعبي القديم، بدءا من الأغاني الممجدة لحرب التحرير الجزائرية والتي لعبت نساء المهجر فيها دورا كبيرا وذلك عبر تنظيم مظاهرات واحتجاجات للمطالبة باستقلال الجزائر.
وفي السبعينيات وبداية الثمانينيات، شاركت النساء المنحدرة من دول المغرب في النضال من أجل كسب حقوقهن الاجتماعية وشاركن في مظاهرات من أجل ذلك، وأبرزها “مسيرة المغاربيين” (أي مسيرة شباب ولدوا في فرنسا من عائلات مغاربية) في عام 1983 والتي انطلقت من مدينة مرسيليا إلى العاصمة باريس.
وكان الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتران استقبل وفدا من المتظاهرين وكشف عن خطة اجتماعية طموحة ترتكز على إعادة تجديد المساكن والعمارات الواقعة في الأحياء الشعبية إضافة إلى إقرار فرنسا لأول مرة بطاقة الإقامة مدتها 10 سنوات.
المطربة القبائلية حنيفة توفيت عام 1981 في غرفة بالفندق
وخلال العرض الفني “لا تحرروني، سأتولى الأمر بنفسي”، تم أيضا بث فيديوهات على جدران قاعة “كباري سوفاج” تظهر فيها الاحتجاجات في ضاحية نانتير الباريسية وفي أماكن متعددة أخرى شاركت فيها النساء وكن يرفعن شعارات مطالبة بالعدالة والحرية والمساواة بين الجنسين.

ويروي العرض أيضا الدور الرئيسي الذي لعبته النساء المغاربيات داخل عائلتهن وكيف واكبن الأحداث وقمن بتربية أطفالهن حتى أن أصبحوا رجالا ونساء وذلك رغم عدم إتقانهن اللغة الفرنسية.
لكن قوتهن وشجاعتهن جعلتهن يسيرن أمور المنزل بينما كان الرجال يذهبون إلى العمل في شركات لصناعة السيارات مثل “بيجو” و”رينو” في شمال فرنسا أو في الضاحية الباريسية.
وإضافة إلى قصص هؤلاء النساء التي روتها ابنة المغني إدير تانينا شريات، تم أيضا أداء أغاني بعض الفنانات اللواتي رافقن حياة النساء المغاربيات في المنفى، وفي مقدمتهن المغنية القبائلية (الجزائرية) حنيفة التي توفيت في نهاية 1981 داخل غرفة بفندق متواضع في باريس قبل نقلها لبلادها بعد نحو شهر ودفنها هناك.
عانت حنيفة من ويلات المنفى في فرنسا حيث وصلت في عام 1957. كانت تغني في المقاهي، وأغانيها عبارة عن قصص لحياتها البائسة. فقد تزوجت في الجزائر وعمرها لم يتجاوز 15 عاما لينتهي الأمر بالطلاق، ما جعلها تغادر إلى المنفى. وتناولت في أغانيها مسألة القدر والمأساة.
الشيخة ريميتي “أنا وغزالي نلقط في النوار”
كما تم أيضا أداء أغنية لسيدة الطرب الجزائري الشيخة ريمتي في أغنيتها “أنا وغزالي نلقط في النوار” (أنا وعشيقي نجمع الزهور).
ولقيت الشيخة ريميتي رغم معاناتها في المنفى، نجاحا كبيرا في مجال الفن وساندت بأغانيها ومواقفها النساء المغاربيات في نضالهن من أجل كسب حقوقهن الاجتماعية وضد العنصرية التي كان يعاني منها المهاجرون والمهاجرات بشكل عام في فرنسا.
أما الفنانة المغربية نجاة عتابو، فلقد تم أداء أغنيتها الشهيرة “المدونة” والتي تتحدث عن الوصاية التي يمارسها الرجال على النساء سواء كان ذلك في المغرب أو في المهجر.
نساء قاومن من أجل الاندماج في مجتمع فرنسي لم يكن يرحم
كل هذه الأغاني تم أداؤها من قبل مغنيات شابات، على غرار تانينا شريات وسامية ديار إضافة إلى نادية عمور وساندرا حمايدي وموسيقيين محترفين آخرين مثل عبد النور جماي الذي يتقن آلة “الموندول”.
” لا تحرروني، سأتولى الأمر بنفسي” تكريم لجميع النساء اللاتي قاومن الحياة الصعبة في المهجر وبذلن كل ما لديهن من جهد من أجل الاندماج في مجتمع فرنسي لم يكن يرحم ويتقبل الغير بسهولة.