العجوزة لسامح مهران.. من عبد الناصر إلى الإخوان المسلمين


شهدت مصر منذ عام 1952 وحتى الآن عدداً من التقلبات السياسية العنيفة التي غيرت في بنية المجتمع المصري بين أنظمة سياسية ذات مشارب وتوجهات فكرية مختلفة، خلقت حالاً من السيولة والاضطرابات الاجتماعية والثقافية وتناقضات يصعب حصرها، هذه التحولات يرصدها سامح مهران في رواية “العجوزة” (دار إضاءات).
يشير عنوان الرواية “العجوزة” إلى أحد أحياء “القاهرة الكبرى“، الذي لطالما كان مقر نخبة كبيرة من السياسيين والفنانين في القرن الماضي “كان آنذاك حيّاً شاباً جديداً، به الكثير من الأراضي الزراعية القريبة من النيل… كان حيّاً لكبار التكنوقراط من رجال الدولة، مستشارين، لواءات، فنانين مشهورين مثل فايزة أحمد ونعيمة عاكف، وصولاً إلى رؤساء مجلس الشعب (البرلمان) مثل لبيب شقير ورفعت المحجوب” ص41: 42.
من الناحية السياسية تغطي أحداث الرواية الفترة من الخمسينيات حتى إسقاط نظام “الإخوان المسلمين” عام 2013، عبر بطلها “حسين”؛ وهو سليل أسرة عريقة نكَّل بها نظام الحكم عقب ثورة 1952، إذ كان والده أحد القضاة الذين أزاحهم جمال عبدالناصر في ما عرف بـ”مذبحة القضاء” عام 1969، مروراً بالحراك الجامعي بعد حرب 1967، ودعم السادات للجماعات الدينية في ساحاتها في مواجهة اليسار، وصولاً إلى عصر مبارك الذي ترهلت فيه المؤسسات الحكومية واستشرى الفساد في أروقتها مما أدى إلى اندلاع تظاهرات الـ25 من يناير (كانون الثاني) 2011، التي أعقبها وصول جماعة “الإخوان المسلمين”، “بمساعدة أميركية” إلى الحكم الذي لم يستمر سوى عام واحد. وتتوافق هذه النظرة السياسية مع جانب مما جاء في مسرحية لـ سامح مهران بأسم «ميدان القمقم».
الانفتاح والجنازير

وتسبَّبت هذه التطورات السياسية في تحولات اجتماعية وثقافية، وتبدل في التراتبية الطبقية، فالأسر الإقطاعية في العهد الناصري عانت فقدان مصادر قوتها، فسافر بعضها إلى دول أجنبية وعربية؛ هرباً من الواقع الجديد، وفي ظل سياسة الانفتاح الاقتصادي في عهد السادات، ظهرت طبقة جديدة، وبدا الأمر “وكأن الزمان الذي عشناه أيام عبدالناصر قد وافته المنية” ص 184. وتواصل هذا النهج في عهد مبارك وبخاصة في ما عُرِفَ بزواج رأس المال بالسلطة، فظهرت طبقة من الانتهازيين على السطح، “لها عينان يسكنهما جوع لا يشبع، أسفلها أنف مفلطح لا يشم إلا روائح المصلحة” ص162، مما سمح بترييف المدن، وغياب الحريات الفردية وبروز التدين الشكلي.
يشغل عالم الجامعة حيزاً كبيراً من أحداث الرواية بما شهدته من أحداث في الستينيات والسبعينيات، خصوصاً من صراعات بين أطياف اليسار التقليدي، “الماركسية اللينينية كانت تمرح مع الماوية والتروتسكية والناصرية آنذاك” ص43، ومَن يتبنون أفكار هربرت ماركوزة أو ما عرف باليسار الجديد، إضافة إلى من يقفون إلى جانب النظام من ناحية أخرى. لكن سرعان ما تغيَّر هذا الوضع “أعاد السادات الاعتراف بجماعة ’الإخوان المسلمين‘؛ الذين ظهروا بجلابيبهم البيضاء القصيرة، وافترشوا الساحات بالكتب الدينية، ثم سرعان ما استخدموا الجنازير لمنع الحفلات الموسيقية والعروض المسرحية مستغلين حماية الأجهزة الأمنية لهم” ص58.
البنية السردية

وفي سياق متصل تعمد الرواية للكشف عن تغلغل جماعات الإسلام السياسي في مفاصل الدولة، في انتظار اللحظة المناسبة للقفز على الحكم، فبطل الرواية “حسين” تساعده سيدة تنتمي إلى جماعة “الإخوان المسلمين” على التعيين في وزارة الخارجية؛ “إحنا لينا ناسنا اللي هايساعدوك من جوه الوزارة” ص155. وتعمل السيدة نفسها على تجنيد “اللواء حاتم البرغوثي” عبر الزواج، فيسهل من منح التصريحات والرخص للمشاريع التجارية للجماعة نفسها.
ومن ناحية البنية السردية، جاءت الرواية على شكل لوحات مشهدية، تحكي كل شخصية من خلالها جانباً من الحكاية الكلية، مما يجعلنا أمام عمل متعدد الأصوات، تمتلك كل شخصية صوتها الخاص لكن كل صوت يتكامل مع الأصوات الأخرى ويفسر بعضها بعضاً، فهناك صوت “عواطف” التي يطلق عليها وصف “الصندوق الأسود”؛ إشارة إلى ما تملكه من معلومات حول التحولات السياسية التي مرَّت بها مصر، فقد تزوجت من قيادي “إخواني” في بداية حياتها ومن ثم انغمست في حياة الجماعة، ثم من لواء في الشرطة وعملت في التجارة، تبدأ الرواية بصوتها المعبر عن رغبتها في ترك شهادتها قبل أن تموت؛ “لا يمكنني أن أموت دون أن أترك شهادتي عن نفسي… وعمن قابلتهم في مشوار الحياة” ص5.
لكن ولاءها كان دائماً لمصلحتها فقط، ثم يليها صوت “حسين” الذي يتقاطع حوله عالم الرواية ككل، أمه “راوية” تعود أصولها إلى أسرة محمد علي، التي حكمت مصر قبل ثورة 1952، ووالده المولود في أسيوط (جنوب مصر) يمثل البرجوزاية الدينية، درس القانون في فرنسا وعمل بالقضاء إلى أن أوقفه عبدالناصر عن العمل، وهناك صوت المرأة الرمادية “نجاة” زوجة “حسين” التي اختارتها له “عواطف”، فهي الابنة الوحيدة لرجل عصامي ازدهرت تجارته في العقارات في عصر الانفتاح.
خلفية مسرحية
وتظهر بوضوح في طريقة السرد الخلفية المسرحية القادم منها مؤلف الرواية، سواء في أسلوب اللوحات أو الطابع الحواري، فقد اتبع نمطاً ثابتاً في سرد الأحداث، يبدأ كل مشهد من مشاهد الرواية سرديّاً ويختمه بحوار يدور بين الشخصيات، ويحضر المسرح في بنية الأحداث أيضاً مثل أن يقرأ أبطال الرواية نصوصاً مسرحية، كما هي الحال بين “حسين” و”عواطف”؛ “كنا قد قرأنا معاً مسرحية سالاكرو (الأرض كروية) عن عصور الاستبداد الديني” ص185.