ضوء… حين يبهت المسرح ويغيب صاحبه
بقلم: الصحفي بكر الزبيدي
مسرحية «ضوء» تحاول دفع المسرح السعودي نحو فضاءات أكثر فلسفة وتجريدًا، مقدّمة رؤية تعتمد على الرحلة الداخلية والحوار الذهني العميق. ورغم الزخم الذي رافق عروضها ومشاركاتها في عدد من المهرجانات العربية، فإن العمل أثار موجة واسعة من النقاشات حول بنيته الفنية ومدى قدرته على تحويل الفكرة إلى دراما.

هنا لا نبحث عن المجاملة، بل نقترب من العمل بموضوعية وجرأة، لنكشف مناطق القوة، والأهم… مناطق التعثر التي جعلت الضوء في هذه المسرحية يبهت حين كان يفترض أن يضيء.
ضوء… بحثٌ طويل عن فكرة لا تصل
المسرحية السعودية «ضوء» تأتي بوعود كبيرة: بحث عن المعرفة، رحلة نحو الوعي، وتأملات حول معنى الوجود. غير أن ما بدا نظريًا لامعًا تحوّل على الخشبة إلى تجربة تتأرجح بين التجميل البصري والضباب الدرامي، لتترك الجمهور أمام عرض يكثر فيه الرمز ويقلّ فيه المسرح.
فكرة المسرحية تقوم على شخصين يطاردان «الضوء» بوصفه خلاصًا أو وعيًا داخليًا، لكن هذه الرحلة—ورغم جمال رمزيتها—لم تتحول إلى بناء درامي متماسك، بل بدت كمحاولة فكرية لم تكتمل.

حين يتحول الضوء إلى عبء
المشكلة ليست في الرمز، بل في طريقة تقديمه. فالضوء هنا ليس لغة درامية، بل شعار يعلو فوق كل شيء، حتى بات المتلقي يشعر أن العرض يخاطبه بالرمز أكثر مما يخاطبه المسرح. الرمزية المفرطة أفقدت النص توازنه، إذ تحوّل الرمز إلى غاية لا وسيلة، وإلى طبقة كثيفة تُعطّل فهم الجمهور بدل أن تفتح له أبواب التأويل.
إيقاع متثاقل… وكلمات تمشي بلا حركة
على الخشبة، يظل الحوار يدور حول نفسه دون اندفاع أو تصعيد. اللحظة المفصلية—وصول الشخصين إلى الضوء—لا تخلق تحولًا ولا تصعيدًا، بل فقط المزيد من الكلام. وهنا يظهر الضعف الأكبر: لا حدث، لا صراع، لا تطور. إنه عرض يكتفي بـ«تأمل ساكن»، يفتقر إلى الشرارة التي تجعل الفكرة تنبض داخل جسد مسرحي حي.

نهاية بلا أثر… وانتظار لا يبرّر الرحلة
النهاية المفتوحة، حيث يعود الشخصان إلى الانتظار، تبدو أشبه باعتذار مؤجل. بعد رحلة طويلة من الرموز والتنقلات الفكرية، لا يجد الجمهور إجابة، ولا حتى لحظة تحوّل واحدة. إنها نهاية تُذكّر بأن الغموض ليس دائمًا عمقًا، وأن التجريد ليس دائمًا فنًا إذا لم يُبنَ على أسئلة قابلة لأن تُعاش على الخشبة.
سينوغرافيا جميلة… لكنها لا تنقذ الفكرة
قدّمت المسرحية إضاءة محسوبة وجماليات بصرية واضحة، لكن التصميم—مهما كان لافتًا—لا يستطيع بمفرده حمل عرض يعاني من بطء داخلي.
فالخشبة بدت في لحظات كثيرة كأنها تغطي نقصًا في البناء لا تزيده قوة.

عندما يغيب المخرج وتتكلم الأسئلة وحدها
أكثر ما أثار الجدل هو ما جرى في الجلسة النقدية بعد العرض. كان الجمهور ينتظر تفسيرًا لتوجهات العرض ورؤيته الإخراجية، لكن المخرج غاب عن المواجهة النقدية، تاركًا الأسئلة معلّقة بلا رد، وكأن العمل مكتفٍ بذاته ولا يحتاج إلى توضيح. هذا الغياب لا يُقرأ فقط كخيار، بل كـ توقف عن الحوار، وهو أمر يضعف علاقة العرض بجمهوره، ويجعل قراراته الإخراجية تبدو بلا دفاع فني، خصوصًا في عمل يعتمد على التجريد ويحتاج إلى شرح أكثر من غيره.
حضور مهرجاني واسع… وغياب نضج درامي
رغم الملاحظات، لا يمكن إنكار أن «ضوء» قد حجز لنفسه مكانًا في عدة مهرجانات عربية، مما يدل على اهتمام رسمي بالتجارب التي تحاول كسر النمط التقليدي.
وكان آخر حضور للمسرحية في مهرجان الأردن المسرحي بدورته الثلاثين، حيث ارتفعت الأسئلة أكثر مما ارتفعت الإشادات، وظهر بوضوح أن العمل—رغم جماليته—يحتاج إلى إعادة مراجعة في بنائه الداخلي وإيقاعه ومنطقه الدرامي.
إن «ضوء» يحمل طموحًا كبيرًا… لكنه طموح ما زال يبحث عن لغة مسرحية ناضجة تنقله من خانة «الرمز الجميل» إلى خانة «العرض المتكامل». فالضوء لا يكفي أن يُرى… يجب أن يُمسّ.


