توحّش .. حين تضحك الإنسانية على خوفها
بقلم: الصحفي بكر الزبيدي
في زمنٍ صار فيه الخوف رفيقًا يوميًا والعزلة قدرًا جماعيًا، يطلّ علينا عرض «توحّش» للكاتب العراقي عبدالنبي الزيدي والمخرج الأردني محمد الجراح ليعيد طرح سؤال بسيط وعميق في آنٍ واحد: هل ننجو بالضحك أم نختبئ خلفه؟

العرض الذي قُدّم ضمن مهرجان الأردن المسرحي في دورته الثلاثين، اختار أن يواجه مأساة العزلة البشرية بالكوميديا، لا كمهرب، بل كوسيلة مقاومة.
تبدأ الحكاية من مشهدٍ بسيط: عريس وعروس حُرِما من ليلة زفافهما بسبب إصابة العريس بفايروسٍ مجهول. يتحوّل الفرح إلى عزلة طويلة تمتد حتى الشيخوخة، فيبقى الاثنان عالقين في زمنٍ بلا مواعيد، ينتظران نهايةً لا تأتي. لا شيء في الخارج سوى صمتٍ كثيف، ولا شيء في الداخل سوى محاولة للبقاء. وسط هذا الفراغ، يتحوّل الضحك إلى طوق نجاة، وسلاحٍ إنسانيّ في وجه الخوف.
برؤية إخراجية جريئة، نجح محمد الجراح في أن يحوّل فضاء المسرح إلى مرآة للروح المعزولة. الإضاءة الباردة والسينوغرافيا الخالية والموسيقى المتقطعة كانت لغةً بصرية ناطقة عن فراغ الإنسان الحديث. لم يكن العرض تقليديًا في بنائه، بل أقرب إلى حلمٍ يختلط فيه الواقع بالهذيان، والضحك بالدمع. ولهذا السبب تحديدًا، تفاعل الجمهور مع العرض بحرارة، إذ وجد فيه شيئًا من تجربته الشخصية في سنوات الحجر والخوف.

الأداء التمثيلي جاء صادقًا، عميقًا، وبعيدًا عن المبالغة. فأبدع العروسان على الخشبة لم يكونا مجرد شخصيتين، بل تجسيدًا للإنسان في لحظة ضعفه: خائف، متشبث بالأمل، يضحك ليُخفي ارتجاف قلبه. وقد تجلّت ذروة هذا التقمص الإنساني في مشهدٍ بالغ الرمزية حين اعتمد الزوجان على نباح الكلاب في الخارج كإشارة إلى استمرار الحياة. كان ذلك الصوت هو الدليل الوحيد على أن العالم ما زال هناك. لكن حين خمد النباح فجأة، أدركا أن الصمت لم يعد مؤقتًا — وأن الحياة ربما انتهت خلف جدرانهما. كانت تلك اللحظة من أكثر مشاهد العرض تأثيرًا وبلاغة، إذ اختصر الصمت كل ما يمكن أن يُقال عن مرور الزمن وتحوّل الانتظار إلى موتٍ بطيء.
النص الذي كتبه عبدالنبي الزيدي جاء ثريًا بالرمز والتأمل، لا يصف العزلة فحسب، بل يتأملها كحالة وجودية تكشف هشاشة الإنسان في مواجهة المجهول. أما المخرج، فقد ترجم هذه الفكرة بلغة بصرية هادئة ومتماسكة، حافظت على التوازن بين الفكرة والفعل، وبين الرمز والحضور الإنساني.
في الجلسة النقدية التي أعقبت العرض، أثنى النقاد على جرأة الفكرة وقدرتها على الجمع بين السخرية والوجع، ورأوا في «توحّش» تجربة مسرحية متقنة شكلاً ومضمونًا. غير أنهم أشاروا إلى بعض الملاحظات التي يمكن تطويرها في المستقبل، منها أن إيقاع العرض احتاج أحيانًا إلى مزيد من الانسيابية في الانتقالات بين المشاهد، وأن الرمزية الكثيفة في بعض المقاطع حجبت جزئيًا وضوح الفكرة لدى بعض المتلقين. كما اقترح بعض المتحدثين أن يُمنح الأداء الجماعي مساحة أكبر في العروض المقبلة لإثراء التفاعل الحركي على الخشبة.

ورغم هذه الملاحظات، أجمع الحضور على أن «توحّش» شكّلت تجربة فنية ناضجة تُعيد الثقة بدور المسرح العربي في استنطاق الأسئلة الكبرى للإنسان. فالضحك هنا ليس نقيض الخوف، بل رديفه الجميل؛ طريقةٌ راقية لقول إننا، رغم كل هذا التوحش، ما زلنا قادرين على الضحك، وعلى الأمل.
في نهاية العرض، خرج الجمهور وهو يبتسم بتأمل، وكأن المسرحية لم تُعرض على الخشبة فقط، بل في أعماق كل متفرج جلس هناك يتأمل خوفه الخاص.
«توحّش» ليست مجرد تجربة مسرحية، بل مرآة لزمنٍ فقد ملامحه، وشهادة على أن المسرح ما زال المكان الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يواجه فيه نفسه بلا أقنعة… وبضحكةٍ خجولة تحاول أن تخفي وجعه.





