خلفك منعطف تاريخي… حين يغامر المسرح بالوعي
قراءة نقدية في عرضٍ يواجه التاريخ بالوعي
في زمنٍ باتت فيه العروض المسرحية تتسابق على البهرجة البصرية وتناور بالحركة أكثر مما تراهن على الفكرة، يأتي عرض «خلفك منعطف تاريخي» للمخرجة رشا المليفي كقفزة مضادة للتيار، تذكّرنا أن المسرح الحقيقي لا يُصنع بالضوء وحده، بل بالفكر الذي يشعّ من العتمة.

بقلم: بكر الزبيدي
منذ المشهد الأول، بدا العرض وكأنه يوجّه نداءه للجمهور:
كن شريكًا في التفكير، لا مجرد متفرّج على الحدث. كان يطلب منا أن ننخرط في اللعبة المسرحية بعقولنا لا بتصفيقنا، وأن نعيد النظر في وعينا الجمعي ونحن نقف أمام مرايا التاريخ.
مسرح يجرّب أن يفكر
ما يجعل هذا العمل مختلفًا هو أنه ينتمي إلى مسرحٍ يعيد تعريف الفعل المسرحي ذاته. رشا المليفي لم تُهادن في طرحها، بل وضعت شخوصها على حافة الذاكرة، وجعلتهم يواجهون أسئلة الهوية والانتماء بصدقٍ مؤلم، دون تزيينٍ أو محسناتٍ شكلية. الجسد هنا لم يكن وسيلة استعراض، بل أداة تفكير تُفصح بالحركة عن ما يعجز عنه الكلام. تلك الجرأة في تحويل المسرح من مساحة ترفيه إلى مساحة تفكير، هي ما منح العرض نضجه الفني وتماسكه الداخلي.

بين الفكرة والإيقاع
في المستوى الفني، بدا العرض متماسكًا من حيث التنظيم والإنتاج، حيث تجلّت الحرفية في تفاصيل السينوغرافيا والإضاءة وضبط الإيقاع العام. ورغم ذلك، تسللت بعض الفجوات الطفيفة في الانتقالات بين المشاهد، وكأن الإيقاع أحيانًا يتقدّم على المتلقي بخطوة فيتركه للحظةٍ يتأمل فيها ما فات. لكن تلك الهنّات لم تنل من روح العرض، بل أكسبته صدقًا غير مصطنع، يشي بأن المسرح لا يُقاس بالإتقان وحده، بل بقدرته على تحريك الأسئلة فينا.
التمثيل والنص: توترٌ جميل بين الرمزي والواقعي
حمل الأداء التمثيلي حرارة الإخلاص رغم تفاوت الطاقة بين الممثلين، وهو تفاوت بدا طبيعيًا في عملٍ يقوم على تعدد الرؤى والشخصيات. أما النص فكان عميقًا في رمزيته، مفعمًا بالاستعارة والتأمل، لكنه احتاج أحيانًا إلى قليل من الانسيابية حتى لا تتكاثف الرموز على المعنى. ومع ذلك، ظلّ النص أمينًا لفكرته المركزية: أن نتوقف أمام المنعطف التاريخي الذي خلفنا، قبل أن نندفع إلى الأمام بلا وعيٍ كافٍ بما تركناه وراءنا.

رشا المليفي… صوت مسرحي يبحث عن المعنى
تنتمي المخرجة رشا المليفي إلى جيلٍ أردني شاب يسعى إلى إعادة تعريف المسرح بوصفه فعل وعيٍ ومقاومة جمالية في آنٍ واحد. قدّمت خلال السنوات الماضية عددًا من العروض التي تميل إلى المسرح التجريبي والفكري، حيث تسعى دائمًا إلى تحرير الجسد من الاستعراض، والكلمة من الخطابة، لتمنح المشهد حضوره الحقيقي كـ “فكرٍ متجسّد”. تؤمن المليفي أن المسرح ليس مرآة للواقع فحسب، بل أداة لتفكيكه وإعادة بنائه من جديد، ولهذا تأتي أعمالها محمّلة بالأسئلة أكثر من الإجابات، وبالدهشة أكثر من الوعود.

بين الجرأة والوعي
“خلفك منعطف تاريخي” ليس مجرد عرض افتتاحي لمهرجان الأردن المسرحي، بل بيان فني يعلن أن المسرح الأردني قادر على أن يقول كلمته في ساحةٍ تعجّ بالعروض السريعة والمكررة. إنه عمل يغامر بالوعي أكثر مما يراهن على الزخرفة، ويؤكد أن المسرح ما زال مكانًا للأسئلة، لا لطمأنة المتفرجين. في لحظةٍ من لحظات العرض، بدا كأن الخشبة نفسها تفكر، كأنها تستدعي ذاكرتنا الجمعية لتسألنا بصوتٍ خافتٍ وحادّ في آنٍ واحد: هل تجاوزنا منعطفاتنا فعلًا، أم أننا ما زلنا ندور حولها؟
المسرح كفعل يقظة
بهذا المعنى، يُمكن القول إن “خلفك منعطف تاريخي” ليس فقط عملًا مسرحيًا، بل تجربة وعيٍ جماعية. عرضٌ يوقظ الأسئلة ولا يخشى التورط في القلق، يقدّم الجمال لا بوصفه غاية، بل وسيلة لفهم الذات والآخر. إنه تذكير بأن المسرح، مهما تغيّرت الأزمنة، يظلّ الفن الأكثر قدرة على قياس نبض الإنسان حين يواجه نفسه فوق الخشبة.




