مصنع أصلان: آخر معاقل البلاط المزخرف في فلسطين


في أزقة المدن الفلسطينية القديمة، حيث تنسج الحجارة مع الأرصفة ملامح الحكاية، كان للبلاط المزخرف حضور لافت يضفي على البيوت والقصور مسحة من الأناقة والبهاء. هذا البلاط الذي لم يكن مجرد مادة بناء، بل لوحة فنية تنبض بالرموز والدلالات، ارتبط بتاريخ طويل من الذوق الفني الفلسطيني. ومن بين المصانع التي حفظت هذا الفن من الاندثار، يبرز مصنع أصلان، الذي يُعد اليوم آخر المعاقل الباقية لصناعة البلاط المزخرف في فلسطين.
ذاكرة منقوشة على الإسمنت
يتيح الأرشيف الرقمي للمتحف الفلسطيني نافذة فريدة على هذا التراث، حيث يعرض مجموعة ثمينة من إنتاج مصنع أصلان. تضم هذه المجموعة نماذج من البلاط المزخرف بألوانه الزاهية وأنماطه الهندسية الدقيقة، إلى جانب القوالب الأصلية التي كانت تُستخدم في صناعته، ودفاتر حسابات تعود إلى ستينيات القرن الماضي، تكشف تفاصيل دقيقة عن حجم الإنتاج، أسماء الزبائن، وأسعار تلك الحقبة.
هذه المقتنيات لا تُقرأ فقط كوثائق اقتصادية أو صناعية، بل كذاكرة بصرية تحكي قصة جمالية ارتبطت بالبيت الفلسطيني، لتوثّق مشاهد من الحياة اليومية والوعي الجمعي المرتبط بالجمال والهوية.
من الجماليات إلى الهوية
البلاط المزخرف الفلسطيني يحمل في زخارفه طبقات من التأثيرات الثقافية: من الفنون الإسلامية بزخارفها الهندسية، إلى لمسات عثمانية، مرورًا بظلال أوروبية جاءت مع بدايات القرن العشرين. غير أن ما يميزه في فلسطين هو قدرة الحرفيين على دمج هذه التأثيرات في صياغة فريدة، صنعت هوية محلية أصيلة.
كانت البيوت المزينة ببلاط أصلان وأمثاله أشبه بمعارض صغيرة للفن؛ حيث يمتد البلاط المزخرف على الأرضيات والردهات وحتى بعض الجدران، لتتحول المساحات الداخلية إلى لوحات نابضة بالحياة.
الحرفة: دقة وصبر
عملية إنتاج البلاط المزخرف لم تكن سهلة، بل كانت فنًا قائمًا بحد ذاته. تبدأ العملية بتحضير خليط من الإسمنت والألوان الطبيعية، ثم صبّها في قوالب معدنية بدقة متناهية، بحيث تتوزع الألوان وفق النمط المطلوب. بعد ذلك يُضغط البلاط ويُترك ليجف ببطء، ليخرج في النهاية قطعة متقنة تجمع بين المتانة والجمال.
هذه التقنية، التي تتطلب خبرة وصبرًا طويلًا، كانت سر تميز مصنع أصلان، حيث عملت أجيال من الحرفيين على تطويرها وصيانتها، رغم الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة التي عاشتها فلسطين.
تهديد الاندثار
مع دخول المواد الحديثة كالسراميك والرخام المستورد، تراجع استخدام البلاط المزخرف التقليدي تدريجيًا. ورغم ذلك، ظل مصنع أصلان صامدًا كآخر شاهد على هذا الفن، يحافظ على تقاليد الصناعة اليدوية في وقت طغت فيه الآلات والمكننة.
يرى خبراء التراث أن اندثار هذه الحرفة لا يعني فقط فقدان صناعة قديمة، بل ضياع جزء من الهوية الثقافية الفلسطينية التي تجسدت في تفاصيل البيت والزخرفة.
جهود الحماية والتوثيق
في السنوات الأخيرة، برزت مبادرات عدة لحماية هذا الإرث، من أبرزها جهود المتحف الفلسطيني الذي عمل على أرشفة النماذج الأصلية وتوثيق روايات الحرفيين. كما ظهرت دعوات لإعادة إدماج البلاط المزخرف في العمارة الحديثة، ليس فقط كعنصر جمالي، بل كإحياء لجزء من الهوية الوطنية.
ويبقى مصنع أصلان أكثر من مجرد معمل لإنتاج البلاط؛ إنه ذاكرة حيّة لحقبة من الإبداع الفلسطيني في العمارة والفنون التطبيقية. ومن بين دفاتر الحسابات القديمة والقوالب المعدنية المتآكلة، تتجلى حكاية وطن يصرّ على الحفاظ على ذاكرته وهويته، جدارًا بعد جدار، وبلاطة بعد بلاطة.




