حازم شاهين … “ذِكر” إلى ما لا نهاية


بعد انتظار استمر ست سنوات، أطلق عازف العود المصري حازم شاهين ألبومه الجديد، بعنوان “ذكر”، متضمناً خمسة مسارات، يستغرق كل واحد منها نحو ست دقائق. يطرح شاهين نفسه في هذا العمل باعتباره مؤلفاً أكثر منه عازفاً؛ فلم يمنح العود دور البطولة الأساسية، كما هو معتاد في مؤلفات العازفين، الذين يصوغون مقطوعات تهيمن فيها آلة المؤلف على غيرها، ويتحوّل فيها العازفون الآخرون إلى مساندين يعملون في خدمة آلة المؤلف.
تولى حازم شاهين بنفسه عملية التوزيع، وأفسح الطريق أمام آلات مختلفة تفاوت حجم مشاركتها من مسار إلى آخر. أتاح شاهين ألبومه الجديد على “يوتيوب”، وأشار إلى أن عملية التسجيل اكتملت في يناير/كانون الثاني 2019، إلا أن إطلاق الألبوم ظل يتأخر لأسباب مختلفة، كان أولها جائحة كوفيد-19.
مع المؤلفات الموسيقية الحرة، يطلق المستمع العنان لخياله، ويحاول أن يكوّن صورة يظن أن المؤلف أراد رسمها بأنغامه. لكن خيال المستمع ليس طليقاً كما يظن كثيرون، لأنه يتحرك ضمن الإطار الذي يحدّده عنوان المسار الذي يستمع إليه. ومثلاً، حين يسمي المؤلف مقطوعته باسم “النهر”، فإن المستمع يبذل جهده ليؤول الجمل الموسيقية إلى صور، لا تخرج عن لوازم النهر، فالجملة الموسيقية النشطة تعبر عن تدفق الموج، أو سرعة القارب، والجملة الهادئة تعبر عن بطء التدفق، أو سكون الريح، وقد تعبر التحويلات الموسيقية الصاخبة والمفاجأة عن الفيضان، أو انهمار الشلال. وهكذا، تنطلق مخيلة المستمع ضمن دائرة العنوان الذي اختاره المؤلف.
حمل ألبوم شاهين عنوان “ذكر”، وهو أيضاً عنوان المسار الأول من مجموعة المؤلفات الخمسة. مع أواخر عقد التسعينيات، برز اسم حازم شاهين في المشهد الموسيقي المصري، باعتباره أحد عازفي العود المميزين، ثم اتسع جمهوره مع تأسيسه فرقة إسكندريلا، التي اهتمت بإعادة تقديم أعمال سيد درويش والشيخ إمام عيسى وزياد الرحباني، ليقبل على حفلاتها الشباب المتعطش إلى فن موسيقي وغنائي يختلف عما هو سائد.
قدّم شاهين آلة العود بأسلوب خاص، يأخذ من السابقين من دون أن تنمحي شخصيته الفنية المستقلة، التي تظهر في أسلوب عزفه. واشتهر بأنه من تلك الثلة التي حرصت على تعليم الأجيال الجديدة فنون عزف العود، فأعطى التعليم جزءاً كبيراً من وقته وجهده، وتخرج على يديه عدد من العازفين المحترفين.
تحمل لفظة “ذِكر” مدلولاً دينياً، لكن المسار الأول الذي حمل هذا العنوان ابتعد عما اعتاده المستمع من مؤلف موسيقي يحمل هذا الاسم، ليس في المعالجة النغمية فقط، بل حتى في اختيار الآلات، فلا صوت هنا للدفوف ولا الرق ولا القانون. كأنه يقترب من العالم الصوفي من دون أن يغرق فيه، أو أن ينفصل كلية عن عالمه الحقيقي، أو كأنه يعبر عن واحد من الجماهير التي تذهب إلى الموالد لتشاهد ازدحامها وأنوارها وتلقي نظرة من بعيد على حلقات الذكر فيها، مكونة حالة شعبية مصرية لا يعرفها إلا من جربها.
وربما كان لإيقاع المقسوم دور في تعميق تلك الحالة، لكن آلات الغيتار الكهربائي، والكيبورد، والباص غيتار، والترومبيت، لعبت دورها في خلق المفاجأة. يرى عازف العود أحمد وجيه، أن آلة الترومبيت في هذا المسار كادت أن تمارس دوراً غنائياً، من خلال التفاصيل التقنية التي قدمها العازف محمد سواح.
جاء المسار الثاني بعنوان “رقصة السوق”، وغلب عليه الحوار بين العود والناي، بطريقة قد يقبلها الخيال باعتبارها تصويراً لسجال بين باعة ومشترين، ثم تتطور لتصبح مشهداً عاماً لسوق مزدحم بالرواد والبضائع والقصص الإنسانية. في هذا المسار، وجد عازف الناي هاني البدري فرصة لتقديم أداء مبهر يخطف أذن المستمع. يرى العازف شبل سليم أنه بالرغم من أننا أمام مؤلف حر وحديث ومعاصر، إلا أن بنائيته روحها كلاسيكية، فإعادة جملة موسيقية مرات عدة بأسلوب مختلف هو من أهم ما تميزت به الموسيقى الشرقية الكلاسيكية.
حمل المسار الثالث عنوان “النيل”، وتبدأ بجملة بسيطة من مقام بياتي يعزفها العود، من دون مكث في المقام، ثم تتابع الآلات بالجملة نفسها أو ما يقاربها؛ فنسمع الفيولين ثم الناي، ثم يدخل القانون بنقرات شبه إيقاعية، ثم يدخل الكونترباص ليصاحب القانون، استعداداً لدخول الإيقاع.
يرى عازف العود شبل سليم، أن هذا المسار يتسم بدرامية واضحة، ومشاهد متتابعة يشعر بها المستمع مع تتابع الجمل ومع حركيتها التي تصلح لتصوير رحلة نهرية، أو سفر المياه عبر النهر الأطول، كذلك فإن الكونترباص لعب دور التمهيد لكل صورة أراد المؤلف أن نراها بآذاننا. يتوقف سليم أمام المعالجة المقامية لمقطوعة “النيل”، قائلاً: “لم يبتعد شاهين عن البياتي، فدار حول أجناس قريبة، مثل الشوري والحسيني، لكن كل انتقالاته جاءت في خدمة الصورة التي يوحي إليها عنوان المقطوعة”.
جاء المسار المعنون بـ”زكريا إلى ما لا نهاية” ليدور حول جملة من مقدمة لحن أغنية “أهل الهوى”، التي لحنها الشيخ زكريا لأم كلثوم، ثم غناها بنفسه بأسلوب فيه كثير من الاختلاف. ويلحظ المستمع أن العزف في هذه المقطوعة يكاد يحاكي طريقة غناء الشيخ زكريا. مثّل هذا المسار تحية وفاء من شاهين لشيخ الملحنين.
كان من اللافت بدء هذا المسار بأصوات العازفين وهم يضبطون آلاتهم، كأن المستمعين يحضرون مجلساً حقيقياً سيغني فيه زكريا وبصحبته “أهل الهوى” من العازفين والمردّدين، أو ربما كأنهم يحضرون محفلاً لأم كلثوم تغني فيه هذا المونولوج، وتصل إلى أسماعهم أصوات الآلات خلال عملية الدوزان الأخير قبيل رفع الستار.
اتفق العازفان، شبل سليم وأحمد وجيه، على أن هذا المقطع هو الأجمل بين مسارات الألبوم، كذلك اتفقا على أن عزف شاهين ومن معه يكاد يتفجر طرباً وسلطنة وانسجاماً. وكل ذلك جاء تأثراً باسم زكريا أحمد، وبخلوده الذي أراد شاهين أن يبرزه في العنوان: “إلى ما لا نهاية”.
يرى الناقد الموسيقي فادي العبدالله أن ألبوم “ذكر” يمثّل دليلاً على ما يتمتع به حازم شاهين من تواضع وكرم، فصاحب الموهبة الكبيرة والاستثنائية في العود كان يسعه أن يحتكر التفريدات في ألبومه هو، أو أن يبرز العود منفرداً في قطعة أو أكثر. إلا أنه أجرى اختياراً خاصاً بالعودة إلى جماليات التخت، حيث العازفون يتناوبون ويتداولون الجمل والتفريدات ما بينهم، مفضلاً أن يكون عوده وسطهم، وليس متصدّراً أمامهم.
يشير العبدالله إلى أن شاهين كان يجرب تنويعات من المجموعات الصوتية، إذ إن العازفين ليسوا هم في كل مرة، والآلات ليست هي نفسها دائماً، مثلما يجرب تنويعات على الجملة الموسيقية في العمل الأبرز ربما من الألبوم، أي تحيته إلى زكريا أحمد وإلى “أهل الهوى”.
في هذه القطعة تحديداً، يخرج حازم شاهين مما أصبح سائداً عموماً في القطع الآلية المعاصرة، أي أن يكون العمل مؤلفاً من جملة أو اثنتين، وتترك للعازفين مهمة التفريد الحر عموماً ما بين تكرار هذه الجمل. في “زكريا أحمد إلى ما لا نهاية”، يؤلف حازم شاهين، بالموهبة والإصرار والتجريب، عملاً أقرب إلى أن يكون من قالب التنويعات (Variations) على جملة مقدمة “أهل الهوى”.
وقدرة حازم شاهين على إجراء التنويعات بالعود على الجمل اللحنية المختلفة تكاد تكون لانهائية، وهي معروفة لمن صادقه، لكنه هنا يؤلف العمل ويوزعه لآلات كثيرة فينتج من ذلك حوار وتلاقٍ وتقاطعات ومعارضات محسوبة ما بينها تثري العمل بخطوط متعددة، فيشكل معلماً جديداً وطازجاً في مجال التأليف الموسيقي المشرقي غير الأوركسترالي منطلقاً وأصواتاً، بل المنطلق من تراث وآلات محلية.
يؤكد العبدالله أن انطلاقات حازم شاهين البديعة على العود لا تزال منحصرة في جلساته الخاصة. بل إن ما يسجله حازم شاهين أو يقدمه في حفلاته، لا يعدو أن يكون بعض ما يتسرب من موهبته إلى خارج المساحة الخاصة، وهو ليس إلا رأس الجبل الشاهيني الشاهق الذي تختبئ روائعه حتى الآن عن الجمهور الأوسع، والذي يستحق بالتأكيد أن يكون من مجايليه في المحل الأرفع.