في رحيل وضّاح زقْطان: الكتابة بحبر الطفولة وأنغام الكرامة


غيرَ متأخّرٍ عن شقيقه زهير، سرّع الكاتب والفنان وضّاح زقطان (1956-2025) الرحيل لاحقًا بركبِ الراحلين من أسرته؛ والده الشاعر والمناضل خليل زقطان، ووالدته، وشقيقه الشاعر زهير.
محمد جميل خضر
مخيم الكرامة في غور الأردن شكّل معظم وعي الطفل الذي كانهُ وضّاح حين انتقلوا إلى المخيم الذي ترتبط معركة الكرامة باسمِه، قادمين من مخيمات كثيرة بحكم عمل والده في وكالة غوْث اللاجئين الفلسطينيين؛ مخيمات: العروب شمال الخليل، والدهيشة جنوب بيت لحم، وعقبة جبر وعين السلطان وكلاهما حول أريحا وفي رياض عبقها وتاريخها وشمسها وسمائها. هل ثمّة مخيمات أخرى أقام فيها الفتى؟ ربما، لكنه في الحلقة التي سجّلت معه من برنامج “طفولتي” إعداد وإخراج نجاح عوض الله، خصّ مخيم الكرامة شرق النهر بذاكرة طفولته جميعها تقريبًا، فهناك داخل المخيم اجتمعت، كما يقول، “فلسطين جميعها من بحرها إلى نهرها من دون الاتكال، كثيرًا، على البعد العشائري وسند الحمولة… كل أسرة في المخيم… كل فرد فيه أحضر معه ثقافته ومهنته وأغانيه وعاداته وتقاليده… ما نتج عنه جميعه مجتمع فلسطيني جديد بتنوّعٍ أخصب؛ تنوّعٌ في ألعاب الطفولة وعموم الألعاب الشعبية، تنوّعٌ في أنواع الحلويات التي تباع حول مدارس وكالة الغوث، دخول الدراجات الهوائية مع اللاجئين من يافا… حتى تاجر السلاح في بلدته الأصلية أصبح في المخيم أيضًا تاجر سلاح…”.
أجواءٌ حملها وضّاح معه حين انتقلوا من المخيم إلى جبل التاج العمّانيّ، فإذا بصدمة المدينة المزدحمة مقابل آفاق المخيّم الرحبة وساحاتهِ ومساحاتهِ وملاعبهِ وشجرهِ وحجرهِ وقربهِ من النهر، ترسم طبيعة علاقته مع المدينة التي عافها كما عاف مدارسها المسوّرة المغلقة، فهرب إلى الغيتار وأغنيات زمان وكلمات الشجن الطالع من سماء المخيم التي كانت صافية تتيح له أن يعدّ نجومها نجمة… نجمة.
ولد وضاح في حي عين سارة الخليلي لأسرة جميع أفرادها يقرأون خارج المنهاج ويكتبون، أو يبدعون خارج السرب. الولد الرابع استفاد من ثقافة الأب وحنيّة الأم وسط أجواء تضامن حارّ، ما جعل العائلة رقمًا صعبًا وفصلًا حيويًا من فصول حياته التي بدأت في الخليل وانتهت في رام الله بعد عودته مع من عادوا تسعينيات القرن الماضي إلى البلاد كجزء من استحقاقات اتفاقية أوسلو التي لم تحقق للفلسطينيين غير هذه البحْبوحة.
حول قيمة الأسرة عنده يقول: “أسرتي علّمتني كل شيء؛ كيف أقرأ وماذا أقرأ… كيف أحب الناس ويحبني الناس… أنْ لا فرق بين أسود وأبيض… وأنّ الناس سواسية… وهي شكّلت مركزًا وموئلًا ومرجعية لباقي العائلة والجيران والأهل والأصدقاء… بابنا دائمًا مفتوح… أما عن طبيعة العلاقات بيننا، فنحن أصدقاء أكثر من كوننا إخوة وأشقاء…”. وعن طفولته يقول “إن الطفولة هي مسرحيتي التي لم تنتهِ بعد”.
أمّا عن مخيم الكرامة فيقول إنه شكّل أيام إقامته فيه “خليطًا عجيبًا من الناس الآتين من مرجعيات مختلفة وأحيانًا متباينة؛ جار لك من مدينة، آخر من قرية، ثالث من الساحل، رابع من الغور، وخامس من البادية… وهلمّ جرّا…”. تنوّعٌ خصبٌ انعكسَ على وضّاح تعددَ مواهبٍ، فإذا له لمسةٌ في الرسم، وبحّةٌ في الغناء، ولمحةٌ في العزف، ومقترحٌ في التلحين، وعذوبةٌ في الكتابة (خصوصًا للأطفال) وحسٌّ في التمثيل، رائيًا أن الموهبةَ “لا تتوقّف عند جنسٍ إبداعيٍّ بعينهِ، وأنها ليست مادة للبيع”.
أما عن المنجز اللافت في مسيرته، فهو تأسيسه مع الفنان كمال خليل، نهاية سبعينيات القرن الماضي، فرقة “بلدنا” الملتزمة بالغناء الوطني المنتمي لفلسطين والحرية والعدل والجمال.
كمال خليل يلخص في مداخلة لـ”ضفة ثالثة” قصة وضاح مع “بلدنا” ومع “الرايات” وهي فرقة ثانية ولدت من رحم “بلدنا”:
“بدأت مسيرة وضاح في 15 تموز/ يوليو 1977، عندما كلّف بمتابعة نادي صيفي للأطفال تابع لجمعية النساء العاملات في بلدة الرصيفة من أعمال محافظة الزرقاء. ضم المخيم زهاء 30 طفلًا من أعمار خمسة إلى ثمانية أعوام. شكّل تكليف وضاح بالإشراف الفني على أطفال النادي الصيفي، فرصة لتعزيز حلمنا الذي كنا خططنا له وحلمنا به سنين عديدة، ألا وهو تأسيس فرقة غنائية موسيقية تنحاز إلى وجعنا الفلسطيني. كان لدى وضاح في ذلك الوقت عدد من الأغاني إما من كلماته وألحانه، أو من كلمات زهير وأحيانًا من أشعار غسان. وفعلًا أسسنا الفرقة مستفيدين من الأطفال الذين درّبهم وضّاح. ومن فورِها لاقت استحسانًا للجديد الذي تقترحه والمختلف الذي تبنّته فور انطلاقها. أغاني للوطن… للأرض… للزهر… للحنّون… للزعتر… للشهداء… للانتماء… للحرية… بصيغٍ ممكنةٍ وأشكالٍ بسيطةٍ ولغةٍ تناسب الأطفال بهذه الأعمار ويمكنهم أن يتفاعلوا معها. كما حظيت بدعم مهم من مؤسسات وازنة مثل مركز هيا الثقافي الذي كان يشرف عليه أيامها الفنان نبيل صوالحة. ومثل رابطة الكتّاب الأردنيين، ونادي خريجي جامعة بيروت العربية/ ونادي خريجي الجامعة الأردنية. كبرت الفرقة بأغانيها وأجوائها وبدعم رابطة الكتاب عندما زوّدنا حوالي عشرة شعراء بقصائدهم في مقدمتهم الشاعر إبراهيم نصر الله والشاعر رزق أبو زينة. ومنهم عبد الله رضوان ويوسف عبد العزيز ومحمد الظاهر وغيرهم”.
ولد وضاح في حي عين سارة الخليلي لأسرة جميع أفرادها يقرأون خارج المنهاج
وأضاف: “حققنا بذلك انتقالًا مهما عندما لم تعد أغاني الفرقة مقتصرة على أغاني الصغار… تواصلَ عطاءُ الفرقة عدة أعوام إلى أن سافر وضاح إلى بيروت والتحق بالثورة الفلسطينية. وهناك عاش تجربة حصار بيروت عن آخرها، وكان قبلها أسس مع غسان فرقة ثانية مع حفاظه على تعاون مع فرقة بلدنا في عمّان التي أنيط لي مسألة الإشراف عليها وإدارة نشاطها. بعد عودته إلى عمّان قادمًا من دمشق التي أقام فيها زمنًا بعد خروج الثورة من بيروت، أسس فرقة “الرايات” التي تعاملنا كلانا معها بوصفها امتدادًا لفرقة “بلدنا” لا انشقاقًا عنها. وإن الفرقة فرّخت فرقة جديدة تحمل الأهداف نفسها والرؤى ذاتها والرسالة الوطنية الملتزمة بقضيتنا المحورية: فلسطين. وفي الأول والآخر كلانا في نفس الخندق. فرقة “الرايات” شاركت في مسرحية “زريف الطول” من إخراج هاني صنوبر.
بعد اندلاع الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) لعبت الفرق الوطنية الملتزمة دورًا مهمًا وزاد نشاطها وانتشر أثرها وحجم التفاعل الجماهيري معها، فكانت فرقتا “بلدنا” و”الرايات” على الموعد. في تسعينيات القرن الماضي عاد وضاح مع من عادوا إلى رام الله والبلاد. وانتقل، بالتالي، نشاطه الفني إلى هناك، محققًا نقلةٌ جديدة في مسيرته من خلال تركيزه على الكتابة الساخرة وكتابة الأغاني للأطفال فعرف في رام الله كاتبًا أكثر مما عرف فنانًا”.
كتب وضّاح كثيرًا من أغاني الأطفال التي جمع بعضها في ديوان حمل اسم “حكي صغار” وصدر عن دار “الرصيف” للنشر والتوزيع في رام الله. يقع الديوان في 32 صفحة من القطع الصغير بواقع 14 قصيدة مصورة ما بين الفصحى والعامية، بلوحة غلاف للفنانة نتاشا المعاني، تصميم وإشراف فني “أخناتون آرتس”. وتحاكي قصائد الديوان، كما يورد توفيق العيسى في قراءة له نشرها في “القدس العربي”، عقلية الطفل و”مشاغباته في نسج حكايته ورؤيته للأشكال والألوان وأيام الأسبوع، ويذهب إلى عالمه الملوّن بدلًا من سحبه إلى عالم مليء بالصراعات والتناقضات والشعارات الصارخة”.
مشروع طفولي آخر تبنّاه وضّاح، ألا وهو إصدار مجلة للأطفال حملت اسم “سوا سوا” وعمل رئيس تحريرٍ لها.
ليس من باب لغو الكلام يقول الفنان شادي زقطان ابن شقيقه الشاعر غسان إن عمّه وضّاح شكّل وعي طفولته الأول متماهيًا في غرف ذاكرته، ومشكّلًا في ذهنهِ صورةً أسطوريةً لفنانٍ يحمل مع غيتاره (الكلاشينكوف). فهذا القول المنطوقُ تحوّل عند شادي إلى موقف مشرّف عندما قاطع منصة “أنغامي” وأعلن انسحابه منها “احتجاجًا على محتواها الذي يسوّق أغنياتٍ إسرائيليّة”.
في رام الله شعر وضّاح أن له بلد كما لكل الناس بلاد، فكتب بالمحكية الفلسطينية قصيدة “إلنا بلد” التي غنتها ريم تلحمي من لحنٍ لِمنعم عدوان وتوزيع لمحمود عمّار: “إن غنّت بلدنا بغنّوا معها الناس… وإن تعبت هالبلد في لَلبلد حرّاس”.
لعلّه شعورٌ انتابه كثيرٌ من التردد في بعض الأحيان، والحزن في أحايين، فكان أنْ قرّر النوم:
"بطّل حكي…
وافرش ع البرندة ونام
لا بلاد حنّت علينا
ولا سألت علينا الشام
بطّل حكي. لا مرسال يسهّرنا
لا موّال يعاتبنا
(ولَك) بطّل حكي ارمي الجريدة ونام
لا حب عنّا لا وفا
بواقي ليل
ويا ويل
لو طال والهم طوّقنا
والقهر علينا دام
نام".