عراب “التنوير الظلامي” ماذا يريد؟


قبل أيام قليلة من حفل تنصيب الرئيس الأمريكي السابع والأربعين دونالد ترامب، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقابلة مطولة مع الأيديولوجي الرجعي الجديد كيرتيس يارفين وهو يعد عراب التنوير الظلامي.
وهو رجل أعمال سابق في مجال التكنولوجيا. بات أحد أكثر المفكرين تأثيرا في اليمين المتطرف الذي يدعم الرئيس الأمريكي الجديد. فهو عراب الأيديولوجية الجديدة التي أطلق عليها اسم “التنوير الظلامي” والتي تدعو إلى نهاية الديمقراطية في العالم.
“أنا لا أؤمن بالحق في التصويت” وأعتقد حتى أن “الديمقراطية ضعيفة وعفا عليها الزمن”. هذه الكلمات ليست منشورة في زاوية مظلمة على مواقع الإنترنت التابعة لليمين الأمريكي المتطرف ولكنها منشورة على صفحات جريدة “نيويورك تايمز” الشهيرة. ففي يوم السبت 18 يناير/كانون الثاني الجاري، نشرت الصحيفة الأمريكية المرموقة مقابلة طويلة مع كيرتيس يارفين، “المفكر” المناهض للديمقراطية والذي يريد أن تدار الولايات المتحدة مثل شركة ناشئة من قبل أحد “قياصرة التكنولوجيا”.
وبينما كان دونالد ترامب يتحضر لاستلام مهام منصبه يوم الإثنين 20 يناير/كانون الثاني، كان هذا المؤثر ورجل الأعمال السابق في وادي السيليكون قد تقلد مكانة كبيرة باعتباره عراب أيديولوجيا “الماغاسفير” – أو نطاق نفوذ مؤيدي دونالد ترامب. من جانبها، قدمت صحيفة الغارديان البريطانية اليومية هذا “الرجعي الجديد” على أنه “المدون صاحب الأثر الكبير على فترة رئاسة دونالد ترامب الثانية”، وذلك في مقال لسيرته الشخصية نشر في 21 ديسمبر/كانون الأول 2024.

عراب التنوير الظلامي يقول:
فقد أشار إلى كيرتيس يارفين وتياره الفكري المناهض للديمقراطية “التنوير الظلامي” ثلة من كبار الشخصيات السياسية والاقتصادية في البلاد مثل نائب الرئيس جي. دي. فانس والمستثمر الملياردير مارك أندريسن والمذيع تاكر كارلسون وحتى الملياردير إيلون ماسك.
فقد طبعت هذه الأيديولوجية البناء اليميني الترامبي المتطرف. “هذا المفهوم ومفهوم الرجعية الجديدة قابلان للتبادل إلى حد ما. فهما يشيران إلى عقيدة غير ديمقراطية ومعادية للتقدمية تقترح التخلص من الديمقراطية لإدارة الدولة كشركة يتربع على رأسها رئيس تنفيذي بالصلاحيات نفسها التي يتمتع بها ملك مطلق”، هكذا يفسر المصطلح هاريسون سميث، أخصائي الوسائط الرقمية في جامعة شيفيلد عندما كتب عن تأثير هذه الأيديولوجية. مصطلح “التنوير الظلامي” هو أيضا مرجع وانتقاد مبطن لفلسفة التنوير في القرن السابع عشر الميلادي، والتي روجت لتقييد سلطات الملك.
ومنذ وقت طويل الآن يحاول كيرتيس يارفين تمرير وصفاته الأيديولوجية. بداية عبر إخفاء هويته جزئيا. فحتى قبل بضع سنوات، كان لهذه الشخصية “تأثير فقط في أركان قاصية من الويب حيث يوجد أشخاص يعقدون المناقشات والمناظرات داخل تجمعات متخصصة على تويتر أو رديت”، حسب تأكيد جوشوا فاريل مولوي، المتخصص في التطرف على شبكة الإنترنت في جامعة مالمو (السويد).

في عام 2019، يذكر كتاب مارك سيدجويك “المفكرون الرئيسيون لليمين الراديكالي” كيرتيس يارفين في قسمه الخاص بالمفكرين الناشئين لليمين الجديد الذين يستحقون المتابعة. كتب المؤلف آنذاك “لا أعرف ما إذا كان هؤلاء المفكرون الجدد سيكون لهم تأثير أم لا”. معظم الأسماء الأخرى المذكورة غرقت في غياهب النسيان، لكن “كيرتيس يارفين هو من بقي منها”، يلاحظ مارك توترز، المتخصص في الثقافات الفرعية الراديكالية على الإنترنت في جامعة أمستردام.
من “منسيوس مولدبوغ” إلى كيرتيس يارفين
في عام 2000، في بداية مسيرته المهنية بوصفه “مفكرا سياسيا”، لم يظهر حتى تحت اسمه الحقيقي عبر الإنترنت. فقد أطلق كيرتيس يارفين على نفسه اسم “منسيوس مولدبوغ”. تحت هذا الاسم المستعار، وراكبا موجة ثقافة الإنترنت ورَّث كيرتيس فكرتين من أكثر الأفكار التي ميزت حركة أقصى اليمين داخل اليمين المتطرف – في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة. كان “منسيوس مولدبوغ” أحد مخترعي المفهوم السياسي “الحبة الحمراء”، في إشارة إلى فيلم “ماتريكس” الذي يبتلع فيه الممثل كيانو ريفز “الحبة الحمراء” ليستيقظ بعدها على الواقع الحقيقي للعالم وكونه “مصفوفة” محبوس البشر بداخلها. ومثل شخصية نيو (كيانو ريفز في فيلم ماتريكس – ملاحظة المحرر)، يقسم المتشددون من أقصى اليمين المتطرف بأنهم الوحيدون الذين يرون العالم على حقيقته.
كما أشاع كيرتيس يارفين مفهوم “الكاتدرائية”، الذي يشير إلى تحالف مزعوم بين وسائل الإعلام التقليدية ونخبة أكاديمية تعمل على فرض أيديولوجية تقدمية على الأمريكيين.
هذا المؤثر ليس الأب الروحي الوحيد لمصطلح “التنوير الظلامي”. “التنوير الظلامي هو ثمرة محادثة بين كيرتيس يارفين ومفكر سياسي تم دمجه بشكل أفضل في العالم الأكاديمي، نيك لاند، والذي غالبا ما يتم تقديمه كأحد مؤسسي التسريعية السياسية (مذهب يعتقد أن تسريع الرأسمالية كفيل بتحقيق تغيير اجتماعي جذري – ملاحظة المحرر)”، يشرح بنيامين نويز، أستاذ النظرية النقدية في جامعة تشيتشيستر (جنوب إنجلترا) والمتخصص في في مذهب “التسريعية”. نيك لاند كان هو من كتب مانيفستو “التنوير الظلامي” في عام 2012.
تكنو – تحرري
خرج إذن مصطلح “التنوير الظلامي” من الزوايا المظلمة للإنترنت، على وجه الخصوص، بفضل نجاح هذا التيار الفكري في عالم التكنولوجيا. في أوائل العشرينيات من هذا القرن، وجد كيرتيس يارفين نفسه ملقبًا “بنبي وادي السيليكون الرجعي الجديد”.
يقول جوشوا فاريل مولوي إن هذه الأيديولوجية “اكتسبت الكثير من التأثير في دوائر التكنولوجيا المحافظة وفرضت نفسها على نطاق أوسع مع الصعود المدوي لوادي السيليكون”.
يعود الاهتمام بمصطلح “التنوير الظلامي” داخل معبد التكنولوجيا أولا وقبل كل شيء إلى حقيقة أن كيرتيس يارفين “ينتمي إلى وادي السليكون: فهو أحد “أشقاء التكنولوجيا” [مصطلح يشير إلى الثقافة الذكورية القوية داخل وادي السيليكون – ملاحظة المحرر]. على وجه الخصوص، في أوائل عقد 2010، طور منصة – تسمى أوربيت – كان من المفترض أن تحدث ثورة في الطريقة التي نستخدم بها الإنترنت”، كما يقول مارك توترز.
كما أن هذه الأيديولوجية بحد ذاتها كان لديها ما يكفي من الإغراء لإغواء إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ. فهي، في الواقع، تصور عالما “تتكون فيه النخبة المهيمنة من عمالقة التكنولوجيا”، كما يؤكد بنيامين نويز. ويشير هاريسون سميث إلى أن رجعية كيرتيس يارفين الجديدة “تخطط أيضا للسماح للابتكار التكنولوجي بأن يسير في مساره بحرية دون إشراف أو تنظيم ديمقراطي”. لذلك، لا أحد يمنع إيلون ماسك من فعل ما يريده في منصة “إكس”. يقول مارك توترز: “إنها تقنية ليبرتارية (تحررية – ملاحظة المحرر) للغاية، وهي أيديولوجية مؤثرة جدا في وادي السيليكون”.
أخيرا، فإن فكرة إدارة الدولة كشركة ناشئة – التي دافع عنها كيرتيس يارفين في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز – لديها ما يكفي من نقاط القوة لمداعبة وإسعاد “أشقاء التكنولوجيا”. ومع ذلك، فإن “التنوير الظلامي” يذهب بعيدا في طموحاته فهو “يبغي تكوين “أمم مصغرة” داخل الولايات المتحدة الأمريكية، تتم إدارتها جميعا مثل الشركات”، يوضح هاريسون سميث. نهج ليس بعيدا عن مشاريع المدن الجديدة التي يحاول بعض المليارديرات التقنيين تأسيسها.
بشكل ملموس، “دوج” الشهيرة، هذه الهيئة التي أنشأها دونالد ترامب من الصفر للسماح لإيلون ماسك بتخفيض حجم الإدارة الحكومية، هي فكرة مستوحاة من نظرية كيرتيس يارفين. ومن المفترض أن تسمح هذه المؤسسة بإدارة الدولة بشكل أكثر كفاءة، مثل شركة ناشئة.

بعض من العنصرية؟
هل هناك خطر في أن يدفع دونالد ترامب بمنطق “التنوير الظلامي” إلى حد التراجع عن الديمقراطية وإعلان نفسه رئيسًا تنفيذيًا للولايات المتحدة؟ لا يعتقد الخبراء الذين ذلك.
“لقد خدمت الديمقراطية مصالح دونالد ترامب بشكل جيد للغاية حتى الآن. يقول بنيامين نويز: “وهو لن يتخلص من شيء يمنحه الكثير من القوة”. وبالتالي، فإن كيرتيس يارفين سيقدم بعدا مؤسسيًا، مبررا أيديولوجيا لميول دونالد ترامب الاستبدادية.
“لقد خدمت الديمقراطية مصالح دونالد ترامب بشكل جيد للغاية حتى الآن. يقول بنيامين نويز: “وهو لن يتخلص من شيء يمنحه الكثير من القوة”. وبالتالي، فإن كيرتيس يارفين سيقدم بعدا مؤسسيًا، مبررا أيديولوجيا لميول دونالد ترامب السلطوية. فكرة خالية من هذه العنصرية التي تبدو منتشرة بالمناسبة في بقية هذا المعترك الأيديولوجي للنزعة “الترامبية”؟ ليس بهذه السرعة. “إنهم ينفون عن أنفسهم تهمة كونهم عنصريين، لكن تقرير “التنوير الظلامي” [الذي كتبه نيك لاند – ملاحظة المحرر] يتناول مسألة أولئك الذين لهم الحق في استخدام التكنولوجيا وإجابته عنها عنصرية للغاية. فالتقرير ينتقد بشدة المجتمعات الأمريكية الأفريقية “، كما يؤكد بنيامين نويز.
لذلك فهي أيديولوجية متطرفة طبقًا لجميع وجهات النظر، ومع ذلك ستعرض بإسهاب في أعمدة صحيفة “نيويورك تايمز”. فالصحيفة اليومية تشير إلى أن الإنسان بحاجة إلى معرفة عدوه لمحاربته بشكل أفضل. ولكن، على الإنترنت، ربما تكون هذه المنصة المقدمة لكيرتيس يارفين صادمة و”يقارنها البعض بسقوط جدار برلين”، كما يؤكد جوشوا فاريل مولوي. وبعبارة أخرى، فبعد أن تم الكشف عن هذه الأفكار في صحيفة مرموقة فقد كسر الحاجز ولن يكون هناك عودة ممكنة إلى الوراء.