عبدالكريم الجراح… آخر الفرسان الذين ودّعوا الموقع وبقيت الخشبة على العهد

بقلم: الصفحي بكر الزبيدي
ليست لحظة التكريم دائماً مجرد صورة تُلتقط على عجل، ولا درعاً يُسلَّم ثم يُنسى فوق رفٍّ بعيد، هناك تكريم يشبه انحناءة ضوءٍ أمام رجلٍ أضاء مساحات كاملة من الوعي والجمال، هناك لحظات تصمت فيها القاعة احتراماً لا لمشهد الوداع… بل لمسيرة امتدت سنوات طويلة، ظلّ فيها المسرح قلباً لا يخبو، ورسالة لا تتبدد.
وهكذا بدا تكريم وزير الثقافة مصطفى الرواشدة للمخرج عبدالكريم الجراح بعد واحد وثلاثين عامًا من الخدمة؛ لم يكن نهاية مسارٍ إداري، بل بداية قراءة جديدة في سيرة رجل حمل المسرح كما يحمل المرء حُلماً لا يشيخ.
ثلاثة عقود من الشغف… لا تُقاس بالأعوام بل بالضوء
حين قال الجراح: “لم تكن هذه السنوات مجرد وظيفة”، كان يربط زمنه بالمسرح لا بالتقويم. فثلاثة عقود عنده ليست إضافات في رصيد الخدمة، بل طبقات من التجارب، ووجوه عبرت، وأحلام صعدت إلى الخشبة ثم ظلّت هناك.
كان الجراح على الدوام صانع عروض لا تشبه غيرها، ومؤسس مهرجانات تتنفس من روحه، وراعياً لأجيال آمنت بفضاء المسرح قبل أن تعرف قوانينه. كان يؤمن أن الفن ليس حدثًا… بل أثر. وأن المسرح ليس خشبة… بل وطن صغير تتعلّم فيه الروح كيف تقف وكيف تقول.

رجل كتب تاريخه على خشبات الأردن
لا يمكن المرور على صفحات المسرح الأردني دون أن يطلّ اسم الجراح كفصلٍ كامل، لا كهامش. من تأسيس فرقة “طقوس” التي صنعت لغتها الخاصة، إلى مهرجانات الشباب والهواة التي تحوّلت تحت إشرافه إلى منصات ولادة حقيقية، إلى مشاركاته العربية وموقعه الدائم في مهرجان الأردن المسرحي. وعلى خشباته ترك أعمالاً تشبه أيقونات طقسية: “طقوس تاجر الصوف”, “هانيبال”, “سدرا”, “ميشع يبقى حياً”… أعمال تشكلت من الضوء والإيقاع والصورة، وكأنها تُنشئ ذاكرة موازية للمكان.
حين يتحدث الفنان… تظهر الحقيقة
كلماته خلال التكريم حملت امتناناً شفيفاً، وفخراً لا يشبه ضجيج المنتصرين، بل هدوء الذين يعرفون أنهم أدّوا الرسالة. لم يتحدث كمدير يطوي آخر صفحة، بل كحارس للمسرح يسلّم الشعلة لمن بعده ويواصل السير. كان واضحاً أن قلبه ما زال هناك… حيث تقف العيون في الظلام تنتظر الضوء الأول.
هل خسرت المؤسسة رجلاً؟ ربما.. لكن هل خسر المسرح؟ أبداً.
فمن يغادر منصبه قد يترك مكتباً فارغاً، لكن الفنان حين يغادر… يملأ المكان بحضوره. الجراح لم يكن موظفًا في المسرح قط، بل أحد الذين جعلوا المسرح ضرورة لا ترفاً، وحياة لا مهنة.
تكريم لا يقول وداعًا بل: شكرًا لأنك كنت هنا
إن تكريم الجراح ليس محطة أخيرة، بل تذكير بما يجب أن يكون: أن يحتفي الوطن بمبدعيه وهم في ذروة عطائهم، وأن تبقى الأبواب مفتوحة للفن الذي يحرك الروح لا الملفات.

عبدالكريم الجراح يغادر الكرسي… لكنه لا يغادر الخشبة.
يترك أثراً لا يُمحى، وضوءاً سيظل يتنقّل بين الوجوه التي تربّت على جمال عروضه، وجيلاً كاملاً تعلّم منه أن المسرح ليس مكاناً… بل قدراً. ويبقى السؤال معلقاً، يرفرف فوق ذاكرة المشهد: هل نجرؤ يومًا على تكريم المبدع وهو في عنفوان عطائه، لا حين يلوح غروب الخدمة؟
مسيرة الجراح لم تنتهِ .. فمن عشق المسرح… لا يتقاعد.
