سوريا… وطنٌ تتكلّم فيه الحضارات قبل أن تنطق الجغرافيا
لا تُختزل سوريا في حدودها السياسية، ولا يمكن وضعها داخل إطار واحد؛ فهي واحدة من أكثر بقاع الشرق الأوسط امتلاءً بالتنوع العرقي واللغوي والفكري. وعلى امتداد آلاف السنين، تحوّلت هذه الأرض إلى مسرح حضاري مفتوح، تختبر الشعوب فيه تفاعلاتها، وتترك بصمتها في تشكيل الهوية السورية المركّبة، هوية لا تشبه أي أخرى، لأنها وُلدت من تراكمٍ طويل لا من قطيعة.

جغرافيا عبقرية صاغت حكاية الحضارات
بين المتوسط وبلاد الرافدين والأناضول والجزيرة العربية، وقفت سوريا عبر التاريخ بوصفها ممراً إجبارياً للقوافل والجيوش والتجار والمفكرين. مكان كهذا لم يكن مجرد منطقة عبور، بل صار بوتقة تذوب فيها العادات، وتتشابك اللغات، وتتبادل الشعوب فنونها وأنماط عيشها. من إبلا التي سجّلت أولى الوثائق الإدارية، إلى أوغاريت التي خطّت أقدم الأبجديات، تَشَكّل الوعي السوري المبكر على قاعدة التراكم والامتزاج، لا على فكرة الفصل أو الإقصاء.
نسيج سكاني يكتب موسيقى البلاد
يستند المجتمع السوري إلى تنوع عرقي واسع ساهم في صياغة ملامح البلاد، فمن العرب الذين شكّلوا الكتلة السكانية الأكبر ولغتها الجامعة، إلى الأكراد بثقافتهم وامتدادهم الجغرافي في الشمال الشرقي، والسريان والآراميين الذين حافظوا على بريق لغتهم حتى اليوم.
كما ترك الأرمن بصمتهم الصناعية والحرفية، وأسهم الشركس والشيشان بتراثهم القوقازي وموسيقاهم الإيقاعية، بينما حمل التركمان والداغستانيون ألواناً إضافية للوحة المجتمع السوري. وهكذا أصبحت المدن السورية بمثابة فسيفساء يومية تُقرأ في الأزياء، واللهجات، والموسيقى، وأطباق المطبخ الشعبي.
مدن… تتنفس التنوع وتُدرّس التاريخ
دمشق : مدينة يُسمع في حجارتها صدى العصور. دخلتها لغات وثقافات، لكنها ظلّت وفيّة لروحها الحرفية والعمرانية.
حلب : مدينة صنعتها التجارة العالمية، تصدح فيها الأناشيد الصوفية جنباً إلى جنب مع الألحان الأرمنية والكردية، وتزدهر فيها الصناعات التي حملت توقيعات ثقافات متعددة.
الحسكة والقامشلي : نماذج حية لمدن تتجاور فيها ثلاث لغات في شارع واحد: العربية، الكردية، والسريانية.
اللاذقية وطرطوس : مدن ساحلية مزجت روح المتوسط بالنكهة السورية، وأضافت إلى الهوية بُعداً موسيقياً وغذائياً لا يُخطئه الزائر.
هوية تُرمم نفسها… مهما اشتدت العواصف
على مدى قرن من التحولات الكبرى، ورغم الحرب الطويلة وتغيراتها الاجتماعية والجغرافية، حافظ السوريون على قدرة نادرة في إعادة إنتاج هويتهم. الفنان السوري اليوم قد ينتمي لجذور عربية أو كردية أو سريانية أو قوقازية، لكنه يقدّم فناً يعكس الهوية السورية الجامعة. والكاتب يكتب بالعربية لكنه يستعير من خزائن الأرمن والشركس والآراميين صوراً وأفكاراً وملامح. أما المطبخ السوري، فقد أصبح رمزاً عالمياً لهذا الامتزاج؛ من الكبة الحلبية إلى المناقيش الكردية والحلويات الأرمنية.

سوريا… لوحة لا يكتمل جمالها بلون واحد
ما يميّز الهوية السورية أنها لم تُبنَ على قومية مغلقة، ولا على لغة واحدة، بل على تراكم طويل من التجارب البشرية، لتشكّل شخصية مرنة وغنية وقادرة على احتواء الجميع.
إنها هوية تتقدم نحو المستقبل، لكنها تمسك بجذورها كمن يمسك بذاكرة كاملة، لا تسمح بتبديدها أو استبدالها.