رمال الأنبار والنجف تنعش العراق
العراق – بين رمال الأنبار وصحراء النجف، يختبئ كنز اقتصادي غير مستغل يمكن أن يغيّر وجه الصناعة العراقية لعقود قادمة. إنها رمال السيليكا، المادة التي تشكّل العمود الفقري للصناعات الحديثة في العالم — من الزجاج إلى الإلكترونيات والطاقة الشمسية. واليوم، يبدأ العراق أولى خطواته الجادة نحو تحويل هذا المورد الطبيعي إلى محرّك للتنمية والتنويع الاقتصادي.
اتفاق استثماري يعيد رسم خريطة الصناعة
في خطوة تُعدّ الأكبر من نوعها، وقّعت الشركة العامة للزجاج والحراريات العراقية اتفاق تعاون مع شركة أجيال السعودية لإنشاء مجمع صناعي متكامل لمشاريع السيليكا في محافظة الأنبار غرب البلاد، ضمن توجه استراتيجي لتعزيز الشراكات الإقليمية وجذب الاستثمارات النوعية.
وقال مدير عام الشركة، حامد محمد كودي، إن اختيار الأنبار لم يكن اعتباطيًا، بل جاء نتيجة وفرة الرمال عالية النقاوة وعمق الخبرة العراقية في هذا المجال، مشيرًا إلى أن المشروع يقام على مساحة 800 دونم ومن المقرر إنجازه خلال ثلاث سنوات.
وأضاف أن المجمع سيضم مصانع لإنتاج الزجاج المسطح بطاقة 700 طن يوميًا، ومصانع أخرى لإنتاج القناني والجرار بقدرة أولية 200 طن يوميًا قابلة للزيادة، إلى جانب مصنع متخصص لإنتاج القناني الطبية بطاقة 120 طنًا يوميًا، لخدمة القطاع الصحي المحلي.
ويُتوقّع أن يوفّر المشروع ما بين 5 إلى 10 آلاف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، وأن يسهم في تحريك عجلة التنمية في مناطق الأنبار الصحراوية عبر إنشاء بنية تحتية مرافقة تشمل محطات كهرباء ومجمعات سكنية للعاملين.
رمال العراق… ذهب أبيض ينتظر الاستخراج
تُعدّ السيليكا مادة محورية في الصناعات العالمية المتقدمة، حيث تدخل في إنتاج الزجاج، والسيليكون الصناعي، والألواح الشمسية، وشرائح الحواسيب، والاتصالات الضوئية، بل وحتى الصناعات الدوائية.
ويمتلك العراق احتياطيات ضخمة من هذه المادة، أبرزها في محافظتي النجف والأنبار. وتشير تقارير هيئة المسح الجيولوجي إلى وجود أكثر من 220 مليون متر مكعب من الرمال المناسبة لصناعة الزجاج الشفاف في النجف، و385 مليون متر مكعب لصناعة الزجاج الملون، فضلًا عن 330 مليون متر مكعب في مناطق الگعرة ووادي العامج وغرب الرطبة بالأنبار.
ويكشف عبد الحسن الزيادي، عضو مجلس اتحاد رجال الأعمال العراقي، عن وجود احتياطي إضافي يُقدّر بمليار طن من رمال الزجاج عالية النقاوة بنسبة تصل إلى 99%، مؤكدًا أن هذه الموارد يمكن أن تجعل العراق لاعبًا أساسيًا في سوق المواد الخام لصناعة التكنولوجيا المتقدمة إذا أحسن استغلالها.
من التهميش إلى التحوّل الصناعي
على مدى عقود، ظلت هذه الثروة مهملة بسبب التحديات الأمنية والسياسية. واليوم، يدعو خبراء الاقتصاد إلى رؤية وطنية شاملة تضع قطاع السيليكا ضمن أولويات التنمية الصناعية.
ويقول الخبير الاقتصادي مصطفى حنتوش إن «الأنبار تمتلك أحد أكبر الاحتياطيات في الشرق الأوسط»، معتبرًا أن الاستثمارات السعودية تمثّل مؤشرًا على تزايد ثقة المستثمرين بقدرات العراق الاقتصادية.
وأوضح أن تحويل السيليكا إلى منتجات صناعية محلية – بدلاً من تصديرها كمادة خام – سيضاعف العوائد المالية ويعزز القيمة المضافة للاقتصاد الوطني، خاصة في ظل النمو العالمي المتسارع لصناعات الطاقة المتجددة والرقائق الإلكترونية.
*الطريق نحو تنويع الدخل العراقي
يرى محللون أن مشروع السيليكا يمكن أن يشكّل نقطة تحوّل في مسار الصناعة العراقية، عبر ثلاثة محاور رئيسية:
1- تنويع مصادر الدخل القومي وتقليل الاعتماد على صادرات النفط.
2- تعزيز الاكتفاء الصناعي المحلي في مواد أساسية مثل الزجاج والسيليكون.
3- استقطاب رؤوس أموال أجنبية ونقل التكنولوجيا الحديثة إلى الداخل العراقي.
لكن تحقيق هذه الطموحات يتطلب، بحسب الخبراء، تهيئة بيئة استثمارية محفزة تشمل تسهيل الإجراءات، وتوفير القروض، وإعفاء المشاريع من الضرائب الجمركية، إلى جانب تحسين البنية التحتية وضمان الطاقة المستقرة للمصانع الجديدة.
السيليكا بوابة العراق إلى المستقبل الصناعي
رغم أن النفط سيظل حجر الزاوية في الاقتصاد العراقي، إلا أن المستقبل الصناعي للبلاد قد يُكتب برمال شفافة لا تقل قيمة عن الذهب الأسود.
فإذا ما تم استغلال هذه الثروة بعقلانية وشراكات متوازنة، فإن العراق لا يملك فقط فرصة لتعزيز اقتصاده، بل لقيادة حقبة جديدة من التحول الصناعي في المنطقة — عنوانها: من رمال الصحراء إلى سيليكون المستقبل.