حلوة بغداد .. المسرح كما لو أنه صلاة في وجه العزلة


بغداد، مدينة لا تموت. قد تخفت أضواؤها حينا، لكن ما إن يرفع الستار حتى تنهض من رمادها، وتعلن بصوت مسرحي واضح:

المنصة 100 – فراس زقطان
أنا حيّة… وسأظل.
عندما ينعقد مهرجان بغداد الدولي للمسرح، لا يكون الأمر مجرد فعالية فنية ضمن رزنامة ثقافية.بل هو إعلان وجود، واحتفال بالحياة وسط كل ما يحاصرها. هو ردّ بغداد الواضح على سؤال قاس يتكرر:

“هل ما زال ممكنا أن نحلم؟”
في تلك الأيام، تتغير ملامح المدينة. تغدو أرصفتها مسارح متجولة، و الجدران إلى عناوين تدل الناس الى ابواب الفرجة، من جهات الأرض الأربع، يأتي المسرحيون حاملين في حقائبهم أقنعة وحكايات، يقتسمونها مع مدينة اعتادت أن تقاوم بالبقاء.
في بغداد، لا يقام المهرجان كاحتفال مغلق داخل قاعات، بل يوزع الفرح بين الناس، في الشوارع و المقاهي و في أحاديث سائقي التاكسي، مع الشباب الذين يزدحمون أمام المسارح ليكونوا اول الجمهور.
إنه نوع من الاستفتاء الشعبيّ الصامت على الجمال . المسرح هنا ليس تجليا للنخبة، بل فعل للناس، هو فعل شفاء و إبداع.، جعل الدخول إلى قاعات العروض شيئا شاقا ،فالكل يريد التواجد و المشاهدة

كانت مسرحية “الصمت” – بولندا هي عرض الافتتاح و أقيم في فضاء مفتوح
عرض جريء، يواجه العجز بالكتمان.
لا كلمات، بل أجساد تتلوى تحت وطأة الفراغ، ووجوه معلقة في الهواء تبحث عن لغة. المسرحية تستلهم مسرح “تاديوش كانتور” في جعل الجسد شاهدا، وتستبدل السرد التقليدي بتقنيات الأداء الجسدي، والصور السريالية، والصمت الذي ينقلب صراخا داخليا.
العرض تم في موقف سيارات لا في قاعة مسرحية، كأن المكان نفسه جزء من الرؤية فضاء هش مفتوح يتحول في لحظة إلى ذاكرة جماعية لكن ما يجعل هذا العرض عميقا هو تلك الجرأة في تحويل الأشياء إلى رموز وجودية كلها علامات على هشاشتنا أمام الفقد والعبث.



أما حديقة الهِسبريدِس – إسبانيا
عمل بصري ناعم، ذو إيقاع منخفض، يستعير من الأسطورة الإغريقية صورتها، ليبني بها مشهدا عصريًا عن الحراسة، عن الخوف، عن انتظار الغزاة.
نساء يتحدثن بلغة الجسد، في مشهدية مفعمة بالموسيقى المغاربية، يخيل إليك أن الحكاية تدور في أقصى الغرب فعلاً، حيث تغرب الشمس على العالم، وتسرق التفاحات الذهبية واحدة تلو الأخرى.
العمل لا يصرخ، بل يهمس. لكن من يصغي، سيجد فيه كثيرًا من الحنين النسوي إلى فردوسٍ لا نعرف هل كان حقيقيًا أم متخيّلاً.



مسرحية الطابق الخالي – إيطاليا
من العروض التي تمتلك فكرة قوية، لكنها سقطت في فخ الإطالة والتكرار.
الحركة المسرحية كانت مرهقة أكثر من كونها معبرة، والمخرج اعتمد على إدخال عناصر غنائية محلية ظنّ أنها ستبني جسرا مع الجمهور، لكنها ـ في الحقيقة ـ قطعت ذلك الجسر. المتلقي المعاصر ليس ساذجا إنه يعرف متى يمس، ومتى يستدرج.


مسرحية طلاق مقدّس – العراق | علاء قحطان
عرض محلي لكنه بصوت عالمي.
مواجهة جريئة للتشدد الديني، لكن دون مباشرة أو خطابة. المسرحية تسائل علاقة الإنسان بالجسد، وبالمقدس الذي يفرغ معناه حين يستعمل أداة للسيطرة والقتل الرمزي.
الكوريغرافيا ليست مكملة بل محورية؛ الجسد هنا يصنع نصا موازياً للنص المكتوب، يتحرك فيه مثل عاشق يهرب من قيودٍ مقدسة لا تمنحه سوى المزيد من الوحدة.
الموسيقى كانت بذكاء شريكا غير ظاهر. إنها موجودة في العمق، لا تطغى، لكنها تبني الإيقاع الداخلي وتوازي الاضطراب الذي يعانيه النص والجسد معًا.



مسرحية رقصة النسيج – الهند
من أكثر العروض شاعرية وابتكارا.
يتناول حياة عامل نسيج ليس من باب الشفقة أو النقد، بل من باب الاحتفاء بالصبر اليومي، بالحركة التي تتكرر حتى تصبح صلاة. الجسد يتحوّل إلى نول حي. الأنفاس خيوط، والعرق موسيقى، والإيقاع اليومي للعمل يصبح نشيدًا غير مكتوب. لا موسيقى خارجية، فقط صوت الآلات، صرير الخشب والحديد، في تناغم يجعل المشهد أقرب إلى رقصة صناعية صامتة. هذا عرض لا يروى… بل يشاهد ويتأمل، لأن جماله في التفاصيل، وفي تلك اللحظة التي يتمرد فيها الجسد على رتابته، ثم يعود ليكمل الدور كأن شيئا لم يكن هذه المرة لم تكن بغداد مدينة عادية. لم نزرها بما يكفي، ولم نعشها كما ينبغي، ومع ذلك، صار بيني وبينها صلة غامضة منذ أول مرة صافحتها فيها في عام 1992. منذ ذلك اللقاء الأول، شعرت أن بغداد ليست مدينة تزورها، بل ذاكرة تستيقظ داخلك.



تسبقك إلى نفسها، تستقبلك بابتسامة من خلف الغبار والضوضاء، وتقول لك:
“أنا بغداد… لا تخف من الازدحام، فهو طريقتي في الحياة”
تبدو منهكة، لكنها جميلة على طريقتها الخاصة كجمال المدن التي لا تزيف نفسها، ولا تتقن التجمّل، لكنها صادقة بما يكفي لتأسر قلبك.
بغداد لا تُنسى، لأنها لا تتركك تنساها.
كلما غادرتها، تركتَ جزءًا من قلبك على الرصيف، وكلما عدت، وجدته في المكان ذاته، لم يتحرك، لم يشيخ، كأنه كان في انتظارك.

ولذلك، دون تردد، نقول:
حلوة بغداد.





