جلال برجس يدخل عالم الغجر وأساطيرهم


يدخل الروائي الأردني جلال برجس، الفائز سابقاُ بجائزة البوكر العربية، أكثر من مغامرة سردية في روايته الجديدة “معزوفة اليوم السابع” عبر الاقتراب من كتابة السرد الديستوبي.
تسعى رواية جلال برجس إلى تقصي الأحوال في عالم المكان الخبيث، حيث المواجهة مع صناع الـ”يوتوبيا” أو المدينة الفاضلة، ويكتب عن الأجواء التي تعيشها المجتمعات التي تقع ضحية الوباء ضمن فضاء غرائبي له سمة الـ”فانتازيا”. ويشير كذلك إلى الأدوات التي تعتمدها السلطة لفرض هيمنتها وسبل مقاومتها من لدن الجماعات المهمشة. الرواية التي صدرت في طبعة أولى عن دار الشروق في مصر (320 صفحة) تتابع كذلك أوضاع الغجر في مدينة لها سمات المدينة المتخيلة، لكنها تنتمي بأدواتها إلى واقعنا المعاصر، حيث تقوم تكنولوجيا الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي بالدور الأكبر في إدارتها.
تنطلق الرواية من يوم في حياة “تيوليب” الفتاة الجميلة المثقفة التي تعمل في واحدة من منظمات المجتمع المدني، وتركز عملها على ضحايا النزاعات الأهلية. وفي واحدة من لحظات الملل التي تنتابها، تنتبه إلى شاب (باختو) له ملامح غجرية يكنس الشارع، على إيقاعات أغنية تبث من هاتفه النقال، وبدا لها وهو يمسك بالمكنسة كمن يراقص امرأة جميلة.

هيئة رثة
وعلى رغم هيئته الرثة، فإن ملامحه تكشف عن جمال يكمن في روحه بصورة جعلت الفتاة تتجه ناحيته وتحدثه بحثاً عن ما سمّته “الميزان الداخلي” لأن وجهه أزال كثيراً من خوفها، فبدأت ابتكار الأسباب التي تخلق مصادفة اللقاء به. رواحت العلاقة بينهما مكانها على رغم رسائل نصية موجزة أبقت ما نما بينهما تحت ظل التساؤلات، عما تريده فتاة جميلة من عامل تنظيفات غخري يسعى إلى الحياة على رغم قسوتها.
ذات مساء يعثر “باختو” على صندوق خشبي بمحض المصادفة، فقد تناهى إليه صوت ارتطام شيء على مقربة منه، بعد مطاردة بالسيارات تنتهي بإطلاق رصاص ثم وصول سيارات الإسعاف والشرطة. وفي ظلام الشارع المهمل، بدأ يبحث عن شيء يفتش عنه، فوجد صندوقاً خشبياً يحوي مخطوطاً، فأخذه إلى المخيم الذي يعيش فيه وقرر أن يخفيه لأن والده “شاندور”، قائد الغجر وحكيمهم، يعتقد بأن أي ورقة تحوي كتابة تجلب الشرور، لذلك فكر “باختو” بدفن المخطوط داخل حفرة. قبل ذلك، أبصر مناماً ظهر فيه وهو يقف عارياً على قبر الجد الأول، وبين يديه ناي عتيق لم يرَ له مثيلاً، وكان يعزف وتسري اللذة في روحه.
تحدث الانعطافة الرئيسة في الرواية حين يفاجأ سكان المدينة بغياب وجوههم عن المرايا، بحيث لا تظهر لهم سوى صورتهم الشبحية. وبالتدريج يتحول هذا الشعور إلى وباء يعم المدينة التي تعلن إداراتها حال الاستنفار والطوارىء، فيقرر حكامها استغلال الوباء في حين يقرر تجارها استثماره.

وازدادت حال الخوف بعدما أصاب الوباء الناس بالرغبة الدائمة في الانتحار لأنهم باتوا يعانون مطاردات أشباحهم. يخرجون في احتجاجات وهم يهتفون “نريد وجوهنا”، في ما يسمّيه الراوي “هبة المرايا”. وفي مواجهة هذا الحدث، يقرر أبناء طائفة “أبناء الطائر الأسود” التي لا يجتمع أفرادها إلا مرة في كل شهر، أن فناء المدينة مرتبط بغياب المخطوط، ولا حل سوى العثور عليه لإحراقه، كما أوصى الجد الأول. ومن ثم استئناف رحلتهم للوصول إلى نسخة الإنسان الخالد أي الإنسان الذي تتشارك فيه التكنولوجيا. ويخشى أبناء الطائفة من وقوع المخطوط في يد شخص يتمكن من فهم الإشارة التي تركها الجد، بالتالي يعثر على الناي الذي يتيح له السيطرة على المدينة، بالتالي نهاية “أبناء الطائر الأسود”.
وتتابع الرواية رحلة “باختو” لإخفاء المخطوط ورحلة قادة المدينة للعثور عليه. فقد عرف “باختو” أن الجد الأكبر يتحدث عن حرب أبدية يخوضها أحفاده، وعن لحظات سوداء لن يبددها غير العثور على الناي، لذلك يقرر العثور عليه وإخفاء المخطوط.
يشعر “باختو” بالثقة بذاته، فقد رد إليه المخطوط اعتباره أمام نفسه، وأدرك أن امتلاك الصندوق يعني أنه يملك سراً خطراً، بدلاً من شعوره القديم بالدونية والتهميش. ومن ثم يتولد داخله سعي خفي إلى أن يظهر أمام “تيوليب” بصورة المخلص الذي سيجنّب المدينة ويلات الوباء، ولذلك يتحول إلى رجل منذور لأداء مهمة، ويغادر المدينة ليتحصن في الجبل كما فعل الجد الأول في حياته، إذ اعتزل الناس.
مواجهة ملحمية
يستعرض الراوي بعض ما طرأ على حياة الشخصيات الحاكمة للمدينة، وأبرزها “جوناثان” الذي يضاجع النساء في أوضاع شاذة انتقاماً من أمه التي رآها تخون زوجها، ثم قتلها بعد أعوام، بمشاعر يختلط فيها الغضب والشعور الجارف بالأمومة. ونتأمل مصير الطبيب الشهير “أدهم” الذي خرج من الزمرة الحاكمة وحاول الوصول إلى علاج للوباء، لكنه يقتل. وتربط زوجته بين ما رواه عن “أبناء الطائر الأسود” وتحريض الناس على الخروج إلى الشوارع. ويظل الجنرال يتابع ما يجري إلى أن يباغته خبر انتحار زوجته، فيحس بضآلة وجوده، ثم يناديه شبح زوجته ويحثه على الانتحار هو الآخر.
يظهر الناي فجأة بعد أن أطلق أحدهم معزوفة، فتتلاشى الفوضى ويعم الأمان ويعود الناس لرؤية وجوهم الطبيعية، على رغم عدم معرفتهم بصاحب المعزوفة الذي رصدته كاميرات المراقبة، واستطاعت تحديد هويته. ولم يكُن غير “باختو” العاشق الغجري الذي تمكن من الاختفاء قبل أن تصل إليه الشرطة، مما يدفع “تيوليب” إلى الانتقال للعيش وسط الغجر، داعية إلى تحرير “باختو” في مشهد له صبغة ملحمية لافتة ومصوغ درامياً بطريقة تشويقية لافتة. فهي تُعِد حفلة يشارك فيها صديقه الموسيقار العجوز “نوار”، وهو يعزف أغنيته الشهيرة “العازفون بالكمنجات”، ليواجه الغجر حراس الطائر الأسود مواجهة دموية، تنتهي بتحرير باختو” والعثور على الناي، فالموسيقى جعلت الغجر يحصلون على لذة استثنائية”.