الندوة التقييمية والنقد الاستعراضي


كان من الممكن – والأجدر – أن تبقى الندوة التقييمية، في أي مهرجان مسرحي، مساحة فكرية هادئة، تتسع لصوت التجربة وأصدائها، وتشكل تراكماً نوعياً في القراءة النقدية والفكرية، بدل أن تتحول إلى منصة استعراضية مفتوحة لكل من يرغب في تقديم نفسه كناقد، أو حامل رأي، أو منظّر فجائي على حساب العمل المعروض.
ما يُسمّى عادة بـ “الندوة التطبيقية” صار في كثير من المهرجانات العربية – لا جميعها – أقرب إلى عرض جانبي، فيه أكثر مما في العرض المسرحي من مشهدية، ولكن هذه المرة مشهدية من نوع مختلف: مشهدية الادعاء، واحتلال الكلمة، وفرض الذات، ولو على أنقاض تجربة إبداعية لم يكد ينتهي التصفيق لها.
في هذه الندوات، تُستباح لغة المسرح على يد من لا يتقن إلا لغة الخشب، يُصنَع الانطباع على عجل، ويُقدَّم كحكم قاطع. وتُختزل التجربة الإبداعية – بجمالياتها وتناقضاتها – إلى فقرة في “حفلة تقييم” يتبارى فيها البعض على من يستخدم مصطلحاً أكثر تعقيداً، أو من يبدو أكثر تمكناً في جلد العرض، لا تحليله.في هذه الندوات، تُستباح لغة المسرح على يد من لا يتقن إلا لغة الخشب، يُصنَع الانطباع على عجل، ويُقدَّم كحكم قاطع. وتُختزل التجربة الإبداعية – بجمالياتها وتناقضاتها – إلى فقرة في “حفلة تقييم” يتبارى فيها البعض على من يستخدم مصطلحاً أكثر تعقيداً، أو من يبدو أكثر تمكناً في جلد العرض، لا تحليله.
العرض المسرحي هنا لا يُشاهَد بعيون الفن، بل يُستَخدم كمنصة لعرض الذات. لحظة نقد العرض تصبح لحظة تقديم سيرة ذاتية شفوية، مؤقتة، مشحونة بكل ما لم يُنجَز. إذ إن بعض الحاضرين لا يذهبون لمشاهدة المسرح، بل يذهبون ليُشاهَدوا.
وأسوأ ما في الأمر أن هذه الظاهرة لا تُواجَه، بل يجري احتضانها أحياناً من قبل المؤسسات المنظمة، لأن “عدد المتحدثين” صار يُحسب كمؤشر “نجاح” للندوة، وليس نوعية ما قيل أو مدى ارتباطه بالعرض. وهكذا تتحول الندوة إلى مرآة مشوهة، يرى فيها العرض انعكاساً لا يشبهه، فيما يُترك الفنان في العتمة، متفرجاً على ما يُقال باسمه.
المسرح، في جوهره، فنُ تعرية الزيف. بينما النقد – الحقيقي – فنُ الإنصات للعرض قبل إصدار الأحكام عليه. وما يحدث في كثير من هذه الندوات هو العكس تماماً: عرض زائف لتجربة لم تُفهَم، ونقد أصم لعالم لم يُستمع إليه.

والأخطر من ذلك، هو أن هذا النمط من “التقييم” يخلق جيلاً من الفنانين والمخرجين الشبان الذين يُربّون على الخوف من النقد، لا احترامه. لأنهم لا يسمعون نقداً، بل يسمعون ملاحظات شخصية، وانطباعات غير مكتملة، وهجمات نرجسية على ما كان يجب أن يكون مساحة نقاش وتطوير.
إن ظاهرة “النقد الاستعراضي” داخل الندوات التطبيقية ليست فقط مؤشراً على أزمة في المنظومة المسرحية العربية، بل هي جزء من منظومة أكبر، تطفو فيها الواجهة على الجوهر، ويُكافأ فيها الصوت العالي لا العمق، وتُترك التجارب النوعية لتُجلَد على يد من لا يملكون أدوات التفكيك ولا حتى نية الفهم.
ليست المسألة في أن نمنع الكلام، بل في أن نعيد تعريف “مَن يحق له أن يتكلم؟” و”كيف؟” و”لماذا؟”. لأننا في لحظة فنية حرجة، نحتاج فيها إلى النقد بوصفه أداة بَصَر لا سلاحاً، وإلى الحوار بوصفه استمراراً للعرض، لا خنقه.
ربما آن الأوان لأن يُعاد النظر في هذه الندوات، لا بحذفها، بل بتحويلها من ساحة تصفية حسابات شخصية إلى مختبر فكري حقيقي. فالمسرح لا يحتاج إلى مهرجانيات كلام، بل إلى نقد يبني، لا يهدم باسم المعرفة.
فراس زقطان