مكاوي وجاهين في “الليلة الكبيرة”

مكاوي وجاهين في "الليلة الكبيرة"

تمتع المطرب والملحن المصري الشيخ سيد مكاوي (1928 – 1997) بشعبية واسعة، فقد كانت أغانيه دائماً قريبة من الجماهير على اختلاف طبقاتها ثقافياً واجتماعياً. يجد فيها هواة الطرب ما يشبع وجدانهم، وتجد فيها الأجيال الجديدة طاقات تعبيرية ودرامية واضحة، وأداء نشطاً لا ملل فيه ولا رتابة.

ينتمي الرجل إلى عالم الطرب المشيخي، وتأسس على قوالب التراث الرئيسة من أدوار وموشحات، وامتلك ذاكرة قوية، قادرة على استرجاع محفوظها القديم في أي لحظة، كما هي قادرة على حفظ أي لحن بعد سماعه مرة واحدة أو مرتين على الأكثر، ومع الصوت الجميل، والعزف المقتدر على العود، استطاع مكاوي أن يبني شهرته الواسعة ومكانته الجماهيرية الكبيرة.

لحّن مكاوي الرجل لعشرات المطربين والمطربات، وخصّ نفسه بعدد من الألحان الناجحة، وأعاد غناء بعض ما لحنه لكبار المغنين، فسبّب أداؤه قدراً من الحرج لأصحاب هذه الأغاني.

ورغم المسيرة الفنية الطويلة والحافلة والمتنوعة، التي تُوجت بالتلحين لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، بقي عمله الأيقوني “الليلة الكبيرة” في مكانة خاصة، يستدعيها المستمعون على اختلاف أعمارهم وميولهم، أو يبثها الراديو أو التليفزيون، فتجبر المستمع على الانتباه والإنصات المصحوب بالإعجاب الشديد بقدرة الرجل الفائقة على مواكبة كلمات الشاعر المصري صلاح جاهين (1930 – 1986) الذي كتب نصّاً لا يصدر إلا عن شخص تلبس الحالة الشعبية في حواري القاهرة القديمة، وقد نجحت الكلمات في استفزاز موهبة مكاوي فجاراها بنغم مستمد من واقع الموالد الكبيرة في مصر، التي يحتشد في ليلتها الأخيرة مئات الآلاف وربما الملايين، من الزوّار المقبلين من كل أنحاء القطر، وتزدحم فيها ألوان الأنشطة الصوفية والفنية والاستعراضية والتجارية.

نجحت “الليلة الكبيرة” نجاحاً لم يعرفه فنّ الأوبريت من قبل، وزادها الإنتاج التلفزيوني ومسرح العرائس انتشاراً. والأهم أنها عاشت بصورها الحية النابضة، وكلماتها الموغلة في المحلية، ولحنها الغارق في واقعية لذيذة، وطرب شعبي مدهش.

تتوالى المشاهد في النص بإيقاع سريع، وتبدأ بقبة الوليّ صاحب المولد، بعد أن زيّنوها بالأنوار والبيارق، ثم صوت بائع الحمص، بعده صوت رجل مسن يحث الزوار على الإسراع لإفساح الطريق: “اسعى اسعى اسعى”، ثم “المصوراتي” فبائع الطعمية، فالعمدة القادم من الأرياف مستفسراً عن عنوان في حوار مع الأراجوز، ثم لعبة النشان بجملتها الشهيرة: “فتح عينك تاكل ملبن”، ثم بائع لعب الأطفال البسيطة، الزمارة والشخليلة والطراطير، ثم المعلن ينادي على فقرات السيرك، ثم مدرب الأسود الذي يطلب تشجيع الجمهور، فبائع ينادي على السمك المقلي، وآخر ينادي على “الفشة والممبار” ثم زفة الطفل المختون: “يا عريس يا صغير”، ثم حوارات جانبية مع رواد مقهى بلدي، ثم وصول منشد المقهى ومطالبة الرواد له بالغناء، ثم لعبة الطارة، ثم الراقصة في مقهى آخر، ثم منشد آخر، ثم سيدة حائرة ضاعت منها ابنتها وسط الزحام.

يرسم صلاح جاهين هذه الصور بصياغات بالغة الرشاقة، ويضمنها أسماء أشخاص وأماكن حقيقية من منطقة السيدة زينب، التي نشأ وتربى فيها سيد مكاوي؛ فنجد في النص اسم الريس حنتيرة، المنشد الصعيدي، ودقدق، صبي المقهى، والأسطى عمارة، كما نجد المتولي، ودرب شكمبة، وسويقة اللالا.

استمعت الجماهير إلى “الليلة الكبيرة” للمرة الأولى عبر الإذاعة عام 1958، من إخراج عباس أحمد، وبتسجيل قصير، يخلو من مشاهد الحوار بين الأراجوز والعمدة، والمنشد الصعيدي، وغيرها، لكن مع دخول عقد الستينيات، وبرعاية الدولة، أعيد إنتاج أوبريت الليلة الكبيرة لمسرح العرائس، بتصميم الفنان المصري الرائد ناجي شاكر، وإخراج صلاح السقا، وبتسجيل تجاوز 35 دقيقة. سمح هذا الإنتاج ببث الأوبريت في التلفزيون المصري، وانتقل منه إلى التلفزات العربية، وحظي بمستوى عالٍ من تكرار البث، فصارت “الليلة” جزءاً من الوجدان الجماهيري العربي رغم مصريتها الصميمة.

اشترك في أداء فقرات الأوبريت عدد من أصحاب الأصوات المتميزة من المطربين والمطربات، كان أولهم محمد رشدي، الذي أدى كلمات بائع الحمص، ومنها الجملة الطربية الشهيرة: “اللي شاف حمص ولا كلشي.. حب واتلوع ولا طالشي”، ومنهم أيضاً المطرب صلاح عبد الحميد، الذي تقمّص بالغناء شخصية الريس حنتيرة، منشد المقهى، وصاحب الجملة الشهيرة: “يا غزال يا غزال.. العشق حلال”، أو المطرب شفيق جلال الذي غنى كلمات صاحب لعبة الطارة، الذي ينادي: “ورينا القوة.. يا ابني أنت وهو”.

ومن المطربات يتذكر المستمعون صوت شافية أحمد التي غنت كلمات “أم المطاهر”، وأيضاً عصمت عبد العليم، التي غنت المقطع الشهير: “طار في الهوا شاشي.. وأنت ما تدراشي”… مثّل توالي هذه الأصوات خلال اللحن ثراء كبيراً، لا سيما أن كل صورة لا تستغرق دقيقة أو دقيقتين على الأكثر.

يروي الراوي أن صلاح جاهين كتب الكلمات الأولى للأوبريت عندما كان يزور صديقه سيد مكاوي في منزله في حي السيدة زينب، وترامت إلى مسامعه ضجة المولد، وتداخل أصوات الزوار والباعة.. وربما كان هذا هو السر في تضمين النص بأسماء شوارع وأماكن حقيقية بحي السيدة العريق. وبالنسبة إلى الملحن، فهو في الأصل ابن أصيل لهذا الحي، فيه نشأ وفيه تعلم أصول التجويد والتلاوة. لكن من الجوانب المبهرة في الأوبريت أن كورال الأطفال الذي شارك في عدة مواضع من العمل لم يكن إلا مجموعة من أبناء شارع الناصرية بالسيدة زينب. كان حرص أطراف العمل على وضوح الروح المصرية الشعبية كبيراً وعميقاً.

وضع مكاوي كل خبرته في الحالة الشعبية ليعكس اللحن أجواء المولد والزحام وتداخل الأصوات، ويمكن التمثيل لهذه النقطة بالمقطع الذي يختلط فيه صوت رجال الحضرة مع بائع ينادي على العجمية باللوز، وآخر ينادي على الطعمية، وثالث ينادي على الأراجوز.

وبالرغم من النجاح الكبير، بل والكاسح، الذي حققه الأوبريت بنسخة مسرح العرائس، واشتراك عدد من المطربين والمطربات من أصحاب الأصوات الممتازة في أدائه، قرّر الشيخ سيد مكاوي بجرأته المعتادة أن يقدم “الليلة الكبيرة” بصوته منفرداً. وكرّر هذا التقديم كثيراً، داخل مصر وخارجها. وفي كل مرة، استطاع الرجل أن ينتزع إعجاب الجماهير، وينافس وحده وبأدائه التمثيلي نسخة المطربين والمطربات والعرائس والإخراج المسرحي والتلفزيوني. كما حرص الرجل على أن تختلف النسخ التي يقدمها عن بعضها فتطول أو تقصر في مدتها، وأيضاً تختلف في ما يضمنه خلالها من تصرفات طربية.

والحقيقة أن مكاوي وبكلمات جاهين استطاع أن يقدم عملاً طربياً درامياً شعبياً فكاهياً، يعكس أجواء الشارع المصري، والحارة الشعبية، واحتفالات الموالد الجماهيرية. ومع كل هذا، نجح في أن يصل باللحن إلى مكانة وجدانية ربما لم ينلها عمل من هذا اللون من قبل ولا من بعد، مع الاستمرار وقبول الشباب الأجيال الجديدة. وتلك شفرة لا تنفك بسهولة… في “الليلة الكبيرة” بدا صلاح جاهين وسيد مكاوي في حالة ائتلاف روحي ومزاجي نادرة.. ثم رحل جاهين في 21 إبريل/ نيسان عام 1986، وانتظر مكاوي حتى عام 1997 ليلحق بصاحبه.. بعد أن اختار نفس الشهر، ونفس اليوم 21 إبريل.. ترك الرجلان إرثاً كبيراً.. تركا “الليلة الكبيرة”.

ال

إقرأ أيضاً

أسد يهاجم امرأة في حديقة للحيوان (فيديو)
أسد يهاجم امرأة في حديقة للحيوان (فيديو)
أصيبت امرأة بجروح بالغة في ذراعها هاجمها أسد في حديقة للحيوان بأستراليا.أصيبت امرأة بجروح بالغة في ذراعها...
الزعيم يعود للأضواء.. أول ظهور لعادل إمام يشعل السوشيال ميديا
الزعيم يعود للأضواء.. أول ظهور لعادل إمام يشعل السوشيال ميديا
بعد غياب طويل عن الأضواء، تصدّر النجم المصري عادل إمام منصات التواصل الاجتماعي بصورة عائلية التُقطت خلال...
الرياض .. تامر حسني نجم افتتاح كأس العالم للرياضات الإلكترونية
الرياض .. تامر حسني نجم افتتاح كأس العالم للرياضات الإلكترونية
يستعد النجم المصري تامر حسني، لإحياء حفل افتتاح بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية، المقرر إقامتها...
عمرو دياب يُغني ألبومه الجديد لأول مرة بالسعودية
عمرو دياب يُغني ألبومه الجديد لأول مرة بالسعودية
بعد أسابيع من التشويق لألبومه “ابتدينا”، يستعد الفنان المصري عمرو دياب، لحفل جماهيري بالمملكة...
"أنا لست شيطاناً".. أنغام تبكي وترد بانفعال على اتهامها بالتآمر على شيرين
"أنا لست شيطاناً".. أنغام تبكي وترد بانفعال على اتهامها بالتآمر على شيرين
خرجت الفنانة المصرية أنغام عن صمتها، وردّت بانفعال شديد خلال مداخلة تلفزيونية، على موجة الانتقادات التي...