عبيدو باشا يروي تجربة حسين ماضي


نصّ يتجاوز التأبين ليكون مقولةً في الصداقة

تتجاوز كلمةُ الناقد والمسرحي اللبناني عبيدو باشا (1957)، عن مُواطنه التشكيلي والنحَّات الراحل حسين ماضي (1938 – 2024)، الصادرة حديثاً عن “مؤسسة ماضي” في كتابٍ من سبع وثمانين صفحة من القطع الصغير بعنوان “حسين ماضي.. حديقة وراء الجدار”، حدودَها التأبينيّة المُباشرة، حدود رثاء الكاتب للفنّان، وحدود الاستعارات المُعروفة سلفاً: تشكيلٌ في قصيدة وتفصيلٌ لُغوي في لوحة، بل هي أوّلاً مقولةٌ في الصداقة، ورثاءٌ فَرِح تخطّى أخيراً نار الفَقد وغمّها، ورسالةٌ مفتوحة لا ينتظر المُرسِل فيها جواباً من المُرسَل إليه، كحال مُراسَلات عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي، المثال الأبرز عن حواريات الكتّاب والفنّانين.

ينطلق باشا من وعي ماضي لتجربته وطريقة تقديمه إيّاها. يكتب: “لم يقُل يوماً إنّه تشكيلي. لم يقُل يوماً سوى إنّه رسّام لا ينتمي إلى طبقة من الأرستقراطيّين. الرسم لا تشكيل. رسّام لا تشكيلي”. هذا التمييز يغترف مفرداته من صورة الغابة التي أقامها التشكيلي، وهنا ينطق صاحب “أقولُ يا سادة: تجربة الحكواتي من التقليد إلى الحداثة” بعبارات مثل “لم يُرد سوى أن يرسم بسخاء. أن تنمو لوحته كسرخس كبير، متشعّب كأخطبوط” أو “الكلام على مُلوِّن وملوانة لا يُجمّد اللوحة، بالعكس، يضعها في سحرها، سحر الطائرة أو سحر الخفّاش، لا بأس ما دام الخفّاشُ يطير”.

يقرأ باشا عُزلة “لاعب الأشكال” (عنوان كتاب عن حسين ماضي للشاعر عباس بيضون صدر عام 2012)، على خلفيّة سنواته الإيطالية، وهي تربو على رُبع قرن، عُزلة أشبه ما تكون بانبثاق القمر من ذاته فـ”الجماعة قطعة قديمة. اكتمال القمر اكتمالٌ خصّه به القدر. اكتمالُ النّفْسِ من النَّفسِ… هذا جزءٌ من الإيغو الحامية رأسها بمظلّة في حديقة أزهار متسلّقة”، وإن لم يقو على اختراق تلك الحديقة سوى “ماريو”، قطٌّ كريم السواد حضر في منزل الفنّان بروح ماركيز، غير أنه حين أراد أن يطلب المزيد كان قدرَه الاختفاء، وبذلك يعود ماضي إلى استراحته “لا” (اللوحة التي تفتتح الكتاب): “لا زوجة. لا أولاد. لا هرّ. لا عصفور”.

المنصة 100

لغة لمّاحة في مقام تأبيني تحتفظ بمقدار وفير من الخصوصية

تقوم عبارةُ عبيدو باشا على النقطة لا الفاصلة، تُوجِز ولا تَبتر، لكنّها أيضاً مترفّعة ولمّاحة، خاصّة عندما تأتي على تفصيل المشكلات التي واجهت الفنّان، واللافت أنّها لا تسعى لتخلق منه “بطلاً” يواجه أغياراً، بالعكس تضعه في سياقه الطبيعي، سياق ما يعترض الإنسان من تحدّيات داخل “الوسط” وخارجه. وهنا نُشير إلى أنّ عادةً خبيثة باتت تتسلّل عند الحديث عن “الأوساط”، ونقصد النميمة التي يعتبرها البعض “شجاعة” أو “تقنية”، مُتناسِين أنها مجرّد انحدار ومثلبة. بهذا يعبُر “حديقة وراء الجدار” فوق تلك التعبيرات و”التقنيات” المُنحَدِرة، محتفظاً بمقدار وفير من الخصوصية في مقام رسالة الصديق الأخيرة إلى صديقه.

المنصة 100

في بيته الكائن بمنطقة رأس بيروت، رحل ابنُ شبعا الجنوبية، في 17 كانون الثاني/ يناير 2024، “مات حسين ماضي وهو يقول إنّه أحبّ، وهو يعرف وحده كيف أحبّ، كيف مشى في قوفل النمل وهو يسمع أصوات الحمَام ويرى ما هو أبعد من كالح ورق الأشجار… جردة منثورة في الريح، ممزوجة بالدهشات… كلّ لوحة بابُ بحر، كلّ لوحة جردة”، بهذه الكلمات يختم عبيدو باشا تأبينه.

أنس الأسعد – العربي الجديد

إقرأ أيضاً

محاولة إخراج ممثلين حمقى
محاولة إخراج ممثلين حمقى… عبث الإنسان الباحث عن مخرج لا يجده
على خشبة عارية إلا من شجرة وحيدة خالية من الأوراق، يفتح المخرج حسام حازم نافذته على العبث الإنساني في...
مسرحية “العميان” حين يتحول العجز عن الرؤية إلى عزلة وجودية
مسرحية “العميان” حين يتحول العجز عن الرؤية إلى عزلة وجودية
بمشهد افتتاحي غارق في الرمزية، وقف أربعة ممثلين شابان وفتاتان يرفعون لوحات منفصلة، لا تكتمل إلا إذا التحمت...
"أوار خامدة" .. صراع الإنسان مع ذاته وحياة زوجية على حافة الفناء
"أوار خامدة" .. صراع الإنسان مع ذاته وحياة زوجية على حافة الفناء
في فضاء مسرحي خنقه الركام وتآكلت ملامحه بالقذارة والعناكب، عُرضت مسرحية “أوار خامدة” ضمن...
لسان اصطناعي يُحاكي براعم التذوق البشرية بدقة غير مسبوقة
لسان اصطناعي يُحاكي براعم التذوق البشرية بدقة غير مسبوقة
في خطوة علمية رائدة تُقرّب الذكاء الاصطناعي من القدرات البشرية، طوّر باحثون جهازاً قائماً على مادة الغرافين...
"شكراً يا هضبة" .. مصطفى قمر يمازح عمرو دياب بواحدة من أغنيات ألبومه الجديد
"شكراً يا هضبة" .. مصطفى قمر يمازح عمرو دياب بواحدة من أغنيات ألبومه الجديد
أثار الفنان المصري مصطفى قمر تفاعلاً واسعاً بعدما شارك جمهوره مقطع فيديو عبر حسابه الشخصي على إنستجرام،...